السؤال الذي يدور في خلد الكثيرين في البلاد
التي تحكمها أنظمة
شمولية، وتكاد تغيب عنها الشفافية والحوكمة هو: لماذا يحرص
القانون في هذه البلاد على إبقاء رأس النظام في منأى عن المساءلة، بل تصبح أي
أسئلة توجه له، أو أي انتقاد بمثابة مخالفة للقانون، ومس بهيبة الدولة، قد تصل
عقوبتها إلى عقوبة الخيانة العظمى، أو تهديد استقرار البلاد وإشاعة الفوضى!
والجواب في خبر جديد يثير شلالا من الأسئلة
عن الحياة التي يعيشها المسؤولون الكبار وحاشياتهم، في الدول "الرخوة"
فيما تغرق بلادهم في المديونية والجوع، فقد تناقلت منصات الأخبار تصريحات مثيرة
لوزير العدل الجزائري على هامش جلسة التصويت في الغرفة السفلى للبرلمان (المجلس
الشعبي الوطني) على مشروع جديد للوقاية من تبيض الأموال وتمويل الإرهاب
ومكافحتهما، حيث قال إن السلطات الجزائرية استرجعت ما قيمته 20 مليار دولار من
الأموال المنهوبة في عهد الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم
البلاد لعشرين عاماً!
تفصيلات الخبر المخيفة تثير أسئلة أكثر مما
تجيب عن أسئلة، فقد نقلت وسائل إعلام محلية، عن الوزير الجزائري عبد الرشيد طبي،
قوله إن مسار استرداد الأموال المنهوبة كان على الصعيد الوطني والدولي، بعد
التواصل والتنسيق بين السلطات القضائية الجزائرية والفرنسية، الإيطالية
والأميركية. مبرزاً أن المبلغ المسترد مؤقت ومرشح للارتفاع!
فإضافة إلى استرداد مبلغ 20 مليار دولار، تم
استرجاع 211 فيلا، و281 بناية في طور الإنجاز،21 عقاراً سياحياً، 596 محلاً
تجارياً، 229 عقاراً فلاحياً، 23774 ملكية منقولة كطائرات خاصة وسفن استجمام،
بواخر نقل سلع، و40203 مركبات بين شاحنات وحافلات، إضافة إلى 821 سيارة تجارية،
1330 آلة خاصة في الأشغال العامة، 236 عتاداً زراعياً، 7000 سيارة فاخرة، وحجز
أموال في 6447 حساباً مصرفياً، إضافة إلى شركات خاصة بتسيير قنوات تلفزيونية!
طبعا كل هذه الأموال ـ والمخفي أعظم! ـ
والعقارات المصادرة والممتلكات المحجوزة، والمصانع والشركات كانت على ذمة رجال
أعمال ومسؤولين نافذين في عهد الرئيس السابق وحصلوا عليها بطرق غير قانونية، إذ
أصدر القضاء الجزائري أحكاماً نهائية بشأن تأميمها، وتقرر وضعها تحت سلطة الدولة
للتصرف فيها!
تخيلوا معي لو وقع أمر خارج عن المألوف،
وكشف الغطاء عن ممتلكات ثلة ممن يحكمون شعوب العالم المنكوبة بالكبت وتكميم
الأفواه واقتصار تطبيق القانون على الضعفاء الفقراء أبناء السبيل، ماذا سنرى من
عجائب كانت بحوزة تلك الثلة، والطبقة الحاكمة من الحبايب والمحاسيب والأنسباء
والأعوان؟
الدولة الرخوة: الدولة التي تضع القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأن لا أحد يحترم القانون، الكبار لا يبالون به، لإن لديهم من المال والسلطة ما يكفي ليحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر عنه
ربما سيجيب كشف كهذا عن أسرار فقر البلاد
التي تحكمها هذه الثلة، وجوع شعبها، فالرزق في هذه الدنيا موزع بعدالة بين البشر
حسب تقديرات رب العزة جلت قدرته، ولا يجوع جائع إلا بإسراف غني أو آكل مال حرام،
فعلى هذه الأرض ما يكفي لكل البشر من حاجات لمعيشتهم، لكن قلة من القوم يمتلكون
معظم الموارد، وما ينطبق على الحاكم "المنزه" عن المساءلة،
"المعصوم" من كل حساب، ويعتبر كل مس به قدحا في المقامات العليا، ينطبق
على تلك الدول "الكبرى" التي وضعت "قانونا دوليا" يضمن لها أن
تفعل ما تشاء بشعوب الأرض الضعيفة، من نهب لخيراتها واستعبادها، مع حماية تامة
يغطيها ما يسمونه ال "الفيتو" في مجلس الأمن، وما هو بمجلس أمن، بل هو
صورة مصغرة لقصور بوتفليقة وما دار فيها، فهذه الدول المسماة كبرى، فوق المساءلة
وفوق القانون، وأي تهديد لسلطتها المطلقة تشهر في وجهه "الفيتو" في حين أنها
تستطيع وفق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة معاقبة أي دولة
"مارقة!" تهدد "السلم الدولي!" بالضبط كما تفعل تلك القوانين
في الدول الرخوة التي تعاقب من يخطر بباله مساءلة رأس النظام!
إن تهمة "قدح المقامات العليا" في
الأنظمة الشمولية، ونظام الفيتو في القانون الدولي، هو لحماية الظالم وإعطائه
تفويضا مفتوحا بفعل كل ما يشاء، دونما حساب، أما قصة حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف
من واحد لمليون، بما فيها السابعة والسادسة والألف، فهي ضحك على الذقون، وذر
للرماد في العيون، ففي سجل كل دولة "عظمى" مظالم لا يمكن حصرها، كما
استعصى حصر الأموال التي استولى عليها الراحل بوتفليقة وأعوانه ومن هم على شاكلته
من حكام الدول الرخوة!
يذكر أن أول من استخدم مصطلح الدولة الرخوة
هو الاقتصادي السويدي كوننر مردال، المتوفي عام 1987، الحاصل على جائزة نوبل في
الاقتصاد لعام ١٩٧٤، في كتابه "الدراما الأسيوية ـ بحث في فقر الأمم" الذي
نشر عام 1968 ويقصد بـ "الدولة الرخوة: الدولة التي تضع القوانين ولا تطبقها، ليس
فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأن لا أحد يحترم القانون، الكبار لا يبالون به، لإن
لديهم من المال والسلطة ما يكفي ليحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر
عنه" هو وصف ينطبق على ما يحدث في الأنظمة الشمولية بقدر ما ينطبق على ما يسمونه
المجتمع أو النظام الدولي!َ