تعيش
باكستان منذ نشأتها على أزمة حقيقية تهددها في
بلوشستان، وهي أزمة الجماعات الانفصالية البلوشية المرتبطة بالقوى الإقليمية
والدولية، وظل النظام الشيوعي الأفغاني، وحتى قبله أيام الملك ظاهر شاه ومن بعده
ابن عمه السردار محمد داود في عهد الجمهورية، يدعمون بشكل خفي أو علني القوى
البلوشية الانفصالية المهددة لوحدة أراضي باكستان، ومع وصول الشيوعيين إلى السلطة،
زادت جرعة الدعم لهذه الجماعات الانفصالية، فتم استقبالهم في كابول وحظوا بدعم
أفغاني، ثم بدعم روسي، وحتى هندي، وفي بعض الأحايين بدعم أمريكي، كما حصل لاحقاً حين
غزا التحالف الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان لخلع طالبان عن
السلطة عام 2001.
لكن باكستان للحقيقة والتاريخ استطاعت بشكل لافت
واستثنائي التعامل مع هذه الظاهرة الفريدة، وبشكل استخباراتي فظيع، واستطاعت
احتواء الظاهرة إن كان من خلال حصرها في جماعات انفصالية محدودة، أو من خلال تجفيف
ينابيعها الإقليمية والدولية، عبر طرح قوة موازية لها، فكان دعم باكستان للقوى
الإسلامية السياسية التقليدية في بلوشستان عبر جمعية علماء الإسلام بزعامة مولانا
فضل الرحمن"، التي كانت الشريك الدائم للحكومات الإقليمية في المنطقة. ومثل
هذا وفّر غطاءً سياسياً لسلسلة من المدارس الدينية التقليدية التي واجهت النظرية
الشوفينية القومية البلوشية عند البعض.
باكستان للحقيقة والتاريخ استطاعت بشكل لافت واستثنائي التعامل مع هذه الظاهرة الفريدة، وبشكل استخباراتي فظيع، واستطاعت احتواء الظاهرة إن كان من خلال حصرها في جماعات انفصالية محدودة، أو من خلال تجفيف ينابيعها الإقليمية والدولية، عبر طرح قوة موازية لها
وزادت المواجهة في دعم القوى الجهادية، إن كان بدعم
المجاهدين الأفغان أيام السوفييت، أو بدعم حركة طالبان الأفغانية تحت الطاولة في
فترة لاحقة، وهو الأمر الذي حجّم القوى القومية البلوشية. فالنظرية الأمريكية منذ
أيام الجهاد الأفغاني كانت تتحدث عن مقاومة العقيدة الشيوعية بعقيدة أقوى منها،
وهي العقيدة الجهادية الأفغانية، وهو ما كان يفسر به المسؤولون الأمريكيون دعمهم
المجاهدين الأفغان لكل من يطرح السؤال عليهم، وتفضيلهم القوى الجهادية على غيرها
من القوى الوطنية الأفغانية الأخرى.
إذن كانت الاستراتيجية الباكستانية متعددة الأبعاد،
ولكن في المحصلة لم تستسلم للقوى الإقليمية والدولية التي لن تتخلى عن مشاريعها
البعيدة المدى، وإنما يمكن أن تضعها على الرف، أو تجمدها لفترة محدودة، كما حصل مع
برنامج دعم حافظ الأسد لحزب
العمال الكردستاني، فسلّم عبد الله أوجلان تحت ضغط
أنقرة، ليعود الأمر مجدداً بعد سنوات في ظل حكم بشار، فيقوم مجدداً بالمساومة على
محاربته والتوقف عن دعمه. وبالتأكيد مثل هذا لن يتوقف، وسيتكرر مجدداً، كما علمنا
التاريخ ألاّ نثق بفرد من آل الأسد.
الدرس الباكستاني في التعاطي مع القوى الانفصالية
البلوشية كان لافتاً، ففي الوقت الذي كانت الحكومة الباكستانية تسمح لها ببعض
المتنفس، لكنها كانت تحاصرها بقوى عقدية أقوى منها، ولم تكن تقبل أي نوع من
الابتزاز الإقليمي والدولي. وكان التحرك الذكي الصامت على مدى عقود هو من أضعف هذه
القوى، بحيث لم تسمح لهذا الملف أن يؤثر على علاقاتها الدولية والإقليمية، وهي
التي تدرك أن المساومة على الملف يعني ابتزازها داخلياً، مما يعني إضعاف موقفها
داخلياً ودولياً.
ولذا رأينا ذلك واضحاً في وصول حلفاء باكستان أيام
المجاهدين الأفغان بعد رحيل الاتحاد السوفييتي إلى السلطة، واليوم وصول طالبان إلى
السلطة، وهي على المدى البعيد حليفة لها بغض النظر عن بعض الخلافات المحدودة
التكتيكية، فيما يتعلق بوجود طالبان باكستان في أفغانستان.
الحل الحقيقي لقضية مليشيات قسد وأحزاب العمال الكردستاني والديمقراطي وغيرها، بمعالجة المرض وليس العرض، والمرض هو وجود النظام السوري، فهو المستنقع الحقيقي الذي يوفر البيئة الحاضنة لمثل هذه المليشيات
ولا ينكر أحد أن القوى الانفصالية البشتونية تراجعت
إلى حد الاختفاء مع زوال النظام الأفغاني الموالي للأمريكيين اليوم، والذي كان
يعمل على تغذية هذه العناصر الانفصالية، بعد أن توقف المصنع والمشغل، وبالتالي
توقف المنتوج، وهو منتوج الشوفينية البلوشية التي مصدرها النظام الأفغاني الموالي
للقوى الغربية والمعادي لباكستان.
الحل الحقيقي لقضية مليشيات قسد وأحزاب العمال
الكردستاني والديمقراطي وغيرها، بمعالجة المرض وليس العرض، والمرض هو وجود النظام
السوري، فهو المستنقع الحقيقي الذي يوفر البيئة الحاضنة لمثل هذه المليشيات، وما
سوى ذلك غمس خارج الصحن، وما دونه محاربة للمنتوج، وليس المصنع، وما خلا ذلك هو حل
تكتيكي مرحلي، تأكد فشله منذ إعلان المؤسس حافظ الأسد التخلي عن دعم مليشيات حزب
العمال الكردستاني، لنرى عودة ذلك في زمن نجله بشار. لقد علمنا التاريخ ألا نثق
بأحد من آل الأسد، كما علّم التاريخ من قبلنا كما نقل إلينا ألاّ يثق أحد بفرد من آل
سيسيل.