كان السؤال المطروح منذ أسابيع يتعلق بمدى جدية القيادة النقابية وقدرتها
على الدخول في معركة كسر عظام مع الرئيس
قيس سعيد، وكانت هذه الشكوك تستند على
عديد الاعتبارات من بينها السياسي والأيديولوجي، إلى جانب رفض قيادة الاتحاد
التقاطع مع حركة النهضة والرجوع إلى مناخ ما قبل 25 تموز/ يوليو، وهو ما جعلها
تساند بقوة ما اتخذه الرئيس سعيد من إجراءات بدون تحفظ إلى حدود صدور المرسوم 117.
ورغم اعتراض هذه القيادة على جوانب عديدة من سياسة الرئيس إلا أنها بقيت
حريصة على اعتماد أسلوب اليد الممدودة لساكن قصر قرطاج، دعمته سياسيا، واعترضت على
دعوات الذين حاولوا سحب الشرعية من قيس سعيد، وأصرت على رفض الاقتراب من
جبهة الخلاص
وهاجمتها في أكثر من مناسبة حتى لا تختلط الأوراق حسب تقدير القيادات النقابية،
وحتى لا يظن الرئيس بأنها انحازت إلى خصومه. وحاولت في المقابل وبكل الطرق كسب
ثقته وبناء علاقة شراكة معه، وبقيت إلى آخر لحظة تنادي بالحوار، وأشركت بعض منظمات
المجتمع المدني لإعداد وثيقة تصلح كأرضية لإنقاذ البلاد من الأزمة الشاملة، لكنها
فشلت في كل ذلك، وأدركت في النهاية أن الخلاف مع الرئيس يتعلق بحرصها على استقلاليتها
وبأسلوبها في العمل وتمسكها بالتدخل في الشأن العام، ورفضها الدخول في بيت الطاعة
بشكل كامل.
خسر سعيد حليفا هاما عمل معظم الرؤساء والحكومات السابقة على كسبه واحتوائه، حتى الرئيس بن علي صاحب القبضة الحديدية تجنب الصراع المباشر مع الاتحاد، ونجح في استقطاب قيادته والحصول على تأييدها أو على الأقل سكوتها عن استبداده وانفراده بالسلطة
الآن تغيرت المعطيات كليا، وتحولت العلاقة إلى تحد متبادل، واتجهت فيما
يبدو نحو القطيعة وصراع الإرادات.
ما حدث يوم السبت الماضي قد يكون نقطة فاصلة في
العلاقة بين الاتحاد ورئاسة الجمهورية؛ فانتقده سعيد في العلن، واتهمه بالخلط بين
النقابي والسياسي كما فعل سابقوه، ثم قام بطرد ضيوف الاتحاد القادمين من الخارج في
محاولة لعزله عن بقية مكونات الحركة النقابية العالمية، وسبق لحكومته أن لوحت
بالتعاون مع بقية المنظمات النقابية. والأخطر من ذلك ما قام به بعض أنصار الرئيس
الذين اعترضوا طريق الأمين العام نور الدين الطبوبي ورفعوا شعارات معادية له
وللاتحاد. وكانت تلك علامة عداء فارقة في موقف السلطة الحقيقي من المكتب التنفيذي
الحالي وبقية القيادات النقابية.
لقد خسر سعيد حليفا هاما عمل معظم الرؤساء والحكومات السابقة على كسبه
واحتوائه، حتى الرئيس بن علي صاحب القبضة الحديدية تجنب الصراع المباشر مع الاتحاد،
ونجح في استقطاب قيادته والحصول على تأييدها أو على الأقل سكوتها عن استبداده
وانفراده بالسلطة.
كان الرئيس سعيد قادرا على عقد "صفقة سياسية" مع الاتحاد من شأنها
أن تدعم حكمه وتقلل من شوكة خصومه وتساعده على ضمان الحد من الاستقرار الاجتماعي،
غير أنه فضل أن ينتهج طريقا آخر جربه البعض ممن سبقوه فلم يفلحوا، بما في ذلك
الرئيس بورقيبة. صحيح أن الاتحاد كغيره من منظمات المجتمع المدني يمر بحالة ضعف
مقارنة بما كانت عليه أوضاعه من قبل، لكن محاولة تطويعه وتركيعه بالقوة لن تزيده إلا
صلابة وتماسكا، وتجعل منه جهازا قادرا على استنزاف السلطة التنفيذية وإضعاف
سلطة
الرئيس سعيد، الذي دخل في حرب غير متوازنة مع معظم الأطراف الفاعلة في المجتمع.
لقد أساء سعيد اختيار التوقيت ولم يحسن قراءة الموازين والظروف، ولم يقدر حجم خصومه بشكل جيد. يعتقد بأنه قادر على فرض إرادته من خلال إضعاف الاتحاد وتغيير قيادته أو إخضاعها، في حين أنه يفتقر حاليا لأوراق رابحة، فالاقتصاد منهار، والدولة ضعيفة، وعزلته في الداخل تزداد وضوحا، أما حزامه الخارجي فهو هزيل ومهزوز
لقد أساء سعيد اختيار التوقيت ولم يحسن قراءة الموازين والظروف، ولم يقدر حجم
خصومه بشكل جيد. يعتقد بأنه قادر على فرض إرادته من خلال إضعاف الاتحاد وتغيير
قيادته أو إخضاعها، في حين أنه يفتقر حاليا لأوراق رابحة، فالاقتصاد منهار،
والدولة ضعيفة، وعزلته في الداخل تزداد وضوحا، أما حزامه الخارجي فهو هزيل ومهزوز.
الورقة التي لا يزال يراهن عليها تتمثل في شرعيته الشعبية التي تتراجع تدريجيا
بإجماع جميع المراقبين، ولم تبق سوى القوى الصلبة التي لا تزال داعمة له سياسيا
ومؤسساتيا.
المعركة الجديدة التي قرر سعيد خوضها بكل ثقة جاءت لتعمق التقاطع بين
النضال النقابي والنضال السياسي الذي تخوضه غالبية التنظيمات السياسية ومنظمات
المجتمع المدني الفاعلة والمستقلة.
فجبهة الخلاص التي كانت تخشى من أن تنفرد بها
السلطة وتعزلها سياسيا واجتماعيا، تشعر حاليا بأنها كسبت نصف الطريق وخرجت من
عزلتها. فهي من جهة نجحت إلى حد ما في استقطاب أحد مكونات الخماسي الذي انفصل عنه
الحزب الجمهوري، ووجد نفسه يتضامن مع المعتقلين السياسيين ويندد بسياسة رئيس
الدولة. ومن جهة أخرى شعرت الجبهة بارتياح كبير لهذا التصعيد الجاري حاليا بين
السلطة واتحاد الشغل، هذا التصعيد الذي يصب في صالح المعركة السياسية الدائرة، إذ
تكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن شعار "حريات حريات.. دولة البوليس وفات"
كان في مقدمة الشعارات التي رددها النقابيون في مسيرتهم، كما كان خطاب الطبوبي
الأخير خطابا سياسيا بامتياز، وما التحية التي وجهها إلى المعتقلين السياسيين إلا
تحديا منه للرئيس سعيد.
هكذا تتضح الرؤية تدريجيا يوما بعد يوم، وما على الذين اختلطت عليهم
الألوان والسبل سوى تغيير زاوية النظر واستحضار تجارب التاريخ التي لا تكذب أبدا.