هل يعقل هذا؟
فإلى الآن، ورغم مرور أكثر من أربع وعشرين ساعة، على
عملية جندي سيناء، إلا أنه لم يتم الإعلان عن اسمه، وعن المحافظة التي ولد فيها،
والقرية التي ينتمي اليها.
أكتب هذه السطور في الثامنة من صباح الأحد (3 حزيران/ يونيو)،
بتوقيت أم القرى ومن حولها، وقد راعني أن الصورة المتداولة للجندي
المصري عبر
منصات التواصل الاجتماعي غير صحيحة، وهي لجندي آخر، وعندما قام البعض بنشر صورة
لجندي آخر في فيديو غنائي، تبيّن أيضاً أنها لا تخصه، ولكنها خاصة بفنان مصري
بالزي العسكري؟!
وتفتح عملية النشر، ممن فعل هذا لأول مرة، الباب أمام
إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي من جانب البعض، ربما لأهداف الانتشار
الشخصي، وفي مثل هذا الحالة فإن النشر، الذي تلقفه حسنو النية، قد قطع الطريق أمام
سؤال الاسم! الأمر الذي يجعلني أضع يدي على قلبي مخافة أن يكون الطرفان المصري
والإسرائيلي يفكران في طريقة لتفريغ الموضوع من محتواه، لا سيما مع هذا الفرح
العارم الذي عم بلاد العرب لهذه العملية، التي ربطت بين صاحبها (الجندي المجهول)
وبين الشهيد
سليمان خاطر، والذي لم يستشهد في المواجهة، ولكنه مات في زنزانته،
ولأن الراوية الحكومية عن انتحاره كانت مفككة وغير مترابطة، فقد استقر في وجدان
الناس أنه تم التخلص منه ولم ينتحر، فلماذا ينتحر والرأي العام اختاره بطلاً، وكان
يُنقل له هذا في المحاكمة التي خضع لها، عبر أسرته ودفاعه من كبار المحامين
المتطوعين؟!
الرأي العام أصدر حكمه سريعاً بأن جندي سيناء المجهول، هو الامتداد الطبيعي لسلالة أنتجت الجندي المعلوم سليمان خاطر، ذرية بعضها من بعض، وقد اختزنت الذاكرة الوطنية اسمه، فلما حدث ما جرى من الجندي المجهول (حتى كتابة هذه السطور)، تبيّن أن سليمان خاطر حيّ في الذاكرة، فاستدعته ذاكرة أجيال لم تعاصره، وربما لم تكن ولدت يوم إعلان وفاته
في أكياد:
إن الرأي العام أصدر حكمه سريعاً بأن جندي
سيناء
المجهول، هو الامتداد الطبيعي لسلالة أنتجت الجندي المعلوم سليمان خاطر، ذرية
بعضها من بعض، وقد اختزنت الذاكرة الوطنية اسمه، فلما حدث ما جرى من الجندي
المجهول (حتى كتابة هذه السطور)، تبيّن أن سليمان خاطر حيّ في الذاكرة، فاستدعته
ذاكرة أجيال لم تعاصره، وربما لم تكن ولدت يوم إعلان وفاته، فإذا بسرادق العزاء في
قريته "أكياد" بمحافظة الشرقية يتحول إلى سرادق أمة، حيث سافر لتقديم
العزاء فيه قيادات سياسية معارضة رفيعة المستوى، وإن نسينا فلن ننسى "الشهيد
الحي" ورئيس حزب العمل إبراهيم شكري، الذي ظل لسنوات يحرص على السفر لـ"أكياد"
في ذكرى استشهاده لتقديم واجب العزاء. وفي يوم إعلان وفاته خرجت المظاهرات المنددة
بقتله وهو ما استقر في الوجدان!
وإذا صحت رواية القتل، فإن الأمر إن لم يكن "عربون
محبة" للجانب
الإسرائيلي، ممن كانت تعتبره إسرائيل كنزها الإسرائيلي، فإن
النظام المصري كان يقوم بقطع الطريق على هذه البطولة، وقد تحولت ساحة المحكمة إلى
محاكمة لكامب ديفيد، وصار سليمان خاطر رمزاً وطنياً استطاع أن يدفع المصريين لأن
يؤوبوا معه، ولهذا ربما يكون الاتجاه بعد أن ذهبت السَكرة وحلت الفكرة، أن يتوافق
القوم على رواية تنهي هذه الأسطورة، أو تحجب اسمها عن النشر، وفيما قام به البعض
بحسن نية بنشر صور غير صحيحة له، ما يساعد في عملية التمويه، والتغطية على اسمه،
وشكله، فتضيع صورته بين الصور المنشورة، وربما لا يسأل أحد عنه، فقد طالعوا صورته.
والطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة، لهؤلاء السذج الذين ينتشرون بيننا
ويحسبون علينا!
قبل أن تحل الفكرة، بدا القوم في القاهرة مرتبكون، فلم
يتفقوا مع الجانب الإسرائيلي على رواية واحدة، مع أن إعلان الرواية كان بعد ساعات
من وقوع المعركة، لذا فقد كانت روايتهم أن الجندي كان في مواجهة مع مهربي مخدرات،
فحدث تبادل لإطلاق نار، بينه وبين جنود إسرائيليين. وإذ تأخرت الراوية الإسرائيلية
لساعات، فقد تناقضت مع هذه الراوية وتحدثت عن قتل لجندي إسرائيلي داخل الأراضي
المصرية، على يد جندي مصري، انتقل إلى الأراضي الإسرائيلية ثم قتل جندياً وجندية،
واختبأ لساعات أيضاً. وإذ بدأت القوات الإسرائيلية في البحث عنه في صحراء النقب،
فقد حدثت مواجهة لساعات ونشروا صورة لسلاحه الذي استخدمه في هذه المواجهة، فإذا به
قديم، لكنها الشجاعة إذا تملكت من قلب إنسان. وإذ قتل الجندي المصري، فقد قتل جندي
إسرائيلي في المواجهة، وإن كان هناك من يشككون في أعداد من قتلوا من الجانب
الإسرائيلي، وأنهم أكثر من هذا!
السوابق المصرية:
الرواية المصرية الهلعة ذكرتني بحالة هلع أصابت النظام
المصري، وانتقلت إلى بيان وزير الداخلية في واقعة مقتل الحاخام المتطرف مائير كاهانا
في تشرين الثاني/ نوفمبر 1990 في احدى الولايات الأمريكية، وقال البيان الأمريكي إن
القاتل شاب مصري اسمه "السيد نصير"، من محافظة بور سعيد، فأعلن وزير
الداخلية اللواء عبد الحليم موسى أنه لا يوجد شاب مصري بهذا الاسم، وأوشك أن يقول
ولا يوجد في بور سعيد أحداً يحمل اسم "السيد"!
الإنكار في حالة الجندي المجهول له سوابق مع المسؤولين المصريين، ثم إنه الآن هو تعبير عن صدمة كبرى، ورأس النظام قام بجهود كبيرة لتحقيق أمن إسرائيل، واعترف بهذه المهمة وباعتبارها وظيفة من وظائفه، وقد استقر الاعتقاد عنده بأن رضا إسرائيل هو المدخل لرضا البيت الابيض، وهو البديل الأكثر أهمية من رضا الشعب المصري عليه. فالشرعية إذا ضنّت بها الشعوب، فإن إسرائيل تملك تقليد المنتج، وأحيانا يكون التقليد أفضل من الأصل
ولم يصمد الإنكار المصري، ومن أعلى سلطة مختصة، فتراجع لصالح
الراوية الأمريكية، وتبين أن الشاب من بور سعيد فعلاً، وقد تخرج في كلية الفنون
التطبيقية، وسافر للولايات المتحدة الأمريكية وحصل على جنسيتها!
فالإنكار في حالة الجندي المجهول له سوابق مع المسؤولين
المصريين، ثم إنه الآن هو تعبير عن صدمة كبرى، ورأس النظام قام بجهود كبيرة لتحقيق
أمن إسرائيل، واعترف بهذه المهمة وباعتبارها وظيفة من وظائفه، وقد استقر الاعتقاد
عنده بأن رضا إسرائيل هو المدخل لرضا البيت الأبيض، وهو البديل الأكثر أهمية من
رضا الشعب المصري عليه. فالشرعية إذا ضنّت بها الشعوب، فإن إسرائيل تملك تقليد
المنتج، وأحيانا يكون التقليد أفضل من الأصل، وقال توفيق عكاشة إنهم ارتموا في
الحضن الإسرائيلي الدافئ كنصيحة منه بعد انقلاب 2013!
لقد هدم الجنرال بيوتا، وهجّر عوائل، لتصبح الحدود مع
الأرض المحتلة مرئية وعلى مدد الشوف، كما أنه أحكم إغلاق المعبر بهدف أمان
إسرائيل، حتى صار ملكيا أكثر من الملك، فإسرائيل لا تريد هذا الإغلاق الدائم الذي
ستكون نتيجته اليأس الذي يدفع اليائسون لتهديد أمنها!
ومع كل ما فعله منذ عشر سنوات، إذ بالخطر على إسرائيل
يكون من حيث لا يدري ولا يحتسب، وهو أمر أكثر خطراً من عدو مطارَد، ومن مهربي
السلاح من أجل المال!
إن داعش، أو ولاية سيناء، لم تقم بأي عملية موجهة ضد
إسرائيل، فعملياتها ضد الجيش المصري، لكن العملية تأتي من هنا، حيث الأمان!
فكيف يشعر الإسرائيليون بالأمن، مع مثل هذه التهديدات
غير المحتملة، ولا يمكن السيطرة عليها؟ فاختيار الجنود هنا لا يتم بعشوائية، ولا بد
من تقارير أمنية، ومن أجهزة أمنية مختلفة!
ما ينبغي أن يسلم به القوم في القاهرة وتل أبيب، أنه قد يكون المصري منطوياً، يفتقد للوعي بقضايا بلده، أو حتى بحقوقه كمواطن، لكن مع الجهل، أو التعليم البسيط، ومع البساطة، والبعد عن السياسة والنشاط الديني، والمشي بجانب الحائط، وإيثار السلامة، فإنه فيما يتعلق بالموقف ضد إسرائيل يبدو الأمر فطرياً، لا يحتاج إلى أن يكتسب من المجتمع، أو المدرسة، أو نشرات الأخبار!
وقطعاً فإن التقارير الأمنية أجمعت على أنه الجندي ليس
له نشاط سياسي، وأجمع العمدة، وشيخ البلد، وشيخ الخفر، والجيران، والزملاء في
المدرسة، أن الفاعل إنسان "في حاله"، لا يقرأ الصحف، ولا يشاهد نشرات
الأخبار، ولم ينتمِ للإخوان، ولم ينتخب محمد مرسي، وربما لم يذهب للانتخابات في
حياته، ولم يشارك في ثورة يناير، وقد يكون تعليمه متوسطا كسليمان خاطر، ممن تأمنهم
السلطات، فكيف فعلها؟!
ما ينبغي أن يسلم به القوم في القاهرة وتل أبيب، أنه قد
يكون المصري منطوياً، يفتقد للوعي بقضايا بلده، أو حتى بحقوقه كمواطن، لكن مع
الجهل، أو التعليم البسيط، ومع البساطة، والبعد عن السياسة
والنشاط الديني، والمشي
بجانب الحائط، وإيثار السلامة، فإنه فيما يتعلق بالموقف ضد إسرائيل يبدو الأمر فطرياً،
لا يحتاج إلى أن يكتسب من المجتمع، أو المدرسة، أو نشرات الأخبار!
"موقف عذري" لم تفض بكارته اتفاقية كامب
ديفيد، وخطاب السياسيين، وجمعيات السلام، وتحول المثقفين، فهي
فطرة المصريين..
وهذا ما يكفي للفزع، ويدفع للبحث عن رواية لا تجعل من صاحبنا بطلا، وقد يكون مهماً
إخفاء اسمه، ومحافظته، وقريته.
فليس كافياً للإسرائيليين أن يكون معهم النظام في مصر،
وانما لا بد من أن يسلّموا بالأمر الواقع، ويخضعوا لحل عادل للقضية الفلسطينية، وإلا
فالخطر من حيث الأمان!
يلدغ المرء من مأمنه.. وهذا هو المخيف!
twitter.com/selimazouz1