ما زالت الأوساط السياسية الإسرائيلية منشغلة في تبعات اتفاق
أوسلو في الذكرى السنوية الثلاثين لتوقيعه، وسط اتهام لليسار باعتباره ارتكب خطيئة التوقيع عليه، فيما يراه اليمين نسخة جديدة من وعد بلفور، ولعل أهم نتيجة أسفرت عن توقيعه هي انقسام الإسرائيليين إلى معسكرين.
وفيما أيدت كتلة اليسار
اتفاق أوسلو بحماسة، لأنها رأت فيه نقطة تحول دراماتيكية، وأن من شأنه السماح بإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية، وربما تؤدي لمصالحة تاريخية مع الفلسطينيين، فقد اعترضت عليه كتلة اليمين بشدة، لأنها رأت فيه خطرا ملموسا على استمرار السيطرة اليهودية بين النهر والبحر، ما قد يؤدي لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة في الضفة الغربية.
وأكد يوئيل زينغر، المستشار القانوني لوزارة الخارجية في حكومة إسحاق رابين، إبان توقيع اتفاق أوسلو، أنه "رغم مرور ثلاثين عاما منذ ذلك الحين، فلم يطرأ أي تغيير في موقف الكتلتين من الاتفاق، حيث تستمر إحداهما في تأييده، والأخرى في معارضته، مع أن التحليل المنطقي للوضع لا بد أن يؤدي إلى انقلاب في صياغته، إذ يتعين على اليمين الآن أن يدعم الاتفاق، وعلى اليسار أن يعارضه، وخلافا لرغبة المبادرين لاتفاق أوسلو، الذين انتمى جميعهم لليسار الإسرائيلي، فإن الاتفاق ليس كافيا".
وأضاف في مقال نشرته صحيفة "
يديعوت أحرونوت"، وترجمته "عربي21" أنه "عندما تصور مناحيم بيغن فكرة الحكم الذاتي بعد الزيارة التاريخية للسادات لإسرائيل عام 1977، فإنه صاغ جملة مبادئ: أولها أن للاحتلال حقا مزعوما في السيادة على الضفة وغزة، وثانيها أن الحل الدائم للأراضي الفلسطينية هو الحكم الذاتي الإداري تحت السيطرة الإسرائيلية، وثالثها بقاء جميع المستوطنات قائمة، والسماح بمواصلة استيطان اليهود في الأراضي الفلسطينية، ورابعها بقاء المسؤولية الأمنية بأيدي
الاحتلال، مع إنشاء قوة شرطة فلسطينية تعمل بالتنسيق مع إسرائيل، وخامسها أن القدس المحتلة ليست جزءًا من الحكم الذاتي".
وقال إنه "من أجل السماح بالانفصال التدريجي عن الفلسطينيين، فقد تطلع رابين وبيريس لإقامة حكم ذاتي يتمتع بسلطات أوسع للسلطة الفلسطينية، مقارنة بالحكم الذاتي الضيق الذي سعى إليه بيغن، بما في ذلك في مجال الأمن الداخلي، ولكن عندما فشلت كل الجهود للتوصل إلى حل دائم، فمن المفارقة أن اتفاق أوسلو حقق رؤية بيغن، وتمت إدامة نظام الحكم الذاتي بشكل افتراضي، من خلال سبعة شواهد أساسية، أولها أنه أعطى الشرعية للاستمرار بالاحتلال لأجل غير مسمى حتى يتم التوصل لاتفاق دائم، وهو ما يبدو مستحيلا اليوم".
وأشار إلى أن "الشاهد الثاني هو إعطاء اتفاق أوسلو شرعية مواصلة استيطان اليهود بالأراضي الفلسطينية، بل وسمح بتسريع العملية، ما أحبط إمكانية إقامة دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي، وثالثها أنه سمح للاحتلال بالتخلص من غزة، التي لم يكن أحد يريد السيطرة عليها، ما سمح للاحتلال بمنحه توازنا ديمغرافيا أكثر ملاءمة للاحتلال باستمرار سيطرته على الضفة فقط، ورابعها أنه سمح باتهام السلطة الفلسطينية بوقف التقدم في عملية
التسوية، وجعل منظمة التحرير مسؤولة عن الحفاظ على الأمن في الأراضي المنوطة بإدارتها، ونتيجة لذلك استولت حماس على السلطة في غزة، وهناك خطر من سقوط أجزاء من الضفة الغربية في أيديها".
وأكد أن "الشاهد الخامس كشف أن اتفاق أوسلو أتاح للأردن ودول عربية أخرى التطبيع مع الاحتلال، وهو ما لم يكن ممكنا بالنسبة لهم من قبل، فإذا كان الفلسطينيون قبل أوسلو قادرين على وضع الاحتلال في معضلة، فإن أوسلو سمح للدول العربية، واحدة تلو الأخرى، بالقيام بذلك بشكل فردي، وبالتالي تآكل حوافز قيام الاحتلال بتقديم المزيد من التنازلات للفلسطينيين، وسادسها هو السماح للاحتلال بالسيطرة على 60 بالمئة من الضفة الغربية وهي (منطقة ج)، وهو منح اليمين فرصة تحقيق حلمه، بالتخلص من الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته الاحتفاظ بمعظم الأراضي خالية منهم، واستخدامها لأغراض أمنية واستيطانية".
وختم بالقول إن "الشاهد السابع لاتفاق أوسلو أنه سمح لليمين الإسرائيلي بمحو اليسار من الخارطة الحزبية، وإدامة حكمه من خلال إلقاء اللوم على الطرف الآخر، وتحميله المسؤولية عن كل نتائج الاتفاق السيئة، رغم أن هذا الاتفاق حقق بالفعل أحلام وأطماع اليمين".
"أضر بالتسوية"
في سياق متصل، كشفت استطلاع للرأي أن "أغلبية الجمهور الإسرائيلي بنسبة 63 بالمئة تعتقد أن اتفاقات أوسلو أضرت بعملية التسوية مع الفلسطينيين، مطالبين بأن يخضع أي اتفاق سياسي معهم لاستفتاء عام، وادعى 23 بالمئة فقط من المستطلعين أن الاتفاق ساهم في التوصل إلى اتفاق سياسي، وفي الوقت نفسه قال 19 بالمئة فقط إن هذه الاتفاقيات أدت للاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط".
وأشار الاستطلاع الذي أجرته حركة "الأمنيين" لإحياء الذكرى الثلاثين لاتفاق أوسلو، بمشاركة 1057 إسرائيليا من جميع الفئات السكانية، نشر نتائجه موقع"
واللا"، وترجمته "عربي21" أن "أقل من نصف الإسرائيليين بنسبة 45 بالمئة يعتقدون أنه لا توجد فرصة للتوصل إلى تسوية حقيقية مع الفلسطينيين، فيما ذكر 15 بالمئة فقط من أفراد العينة في المجتمع الإسرائيلي أن هناك فرصة متوسطة أو عالية للتوصل لتسوية دائمة، وأشارت 13 بالمئة إلى أن هناك اليوم شريكا من الجانب الفلسطيني لإجراء محادثات التسوية".
وأكد أن "الأغلبية المطلقة من الإسرائيليين بنسبة 80 بالمئة قالوا بأنه لا ينبغي السعي للتوصل إلى اتفاق سياسي إلا إذا كان يساهم في أمن الاحتلال، وفي كل الأحوال، فإن الإسرائيليين لا يريدون ترك القرار بشأن عملية التسوية في أيدي السياسيين، رغم تأكيد 71 بالمئة منهم أن الحل السياسي هو الحل، ويجب إجراء استفتاء حول هذا الموضوع".
تكشف هذه الشواهد الإسرائيلية لكارثية اتفاق أوسلو وأنه لن يكون اليوم بعيدا الذي يظهر فيه الاتفاق مثل وعد بلفور الذي منح الاحتلال السيطرة على معظم أراضي الضفة الغربية، وفي المقابل فشل بتحقيق الرؤية الأصلية لرابين وبيريس، ولذلك فمن المتوقع أن يقود لدولة ثنائية القومية مع نظام بانتوستانات وأبارتهايد وفصل عنصري.
تضاف هذه القراءة الإسرائيلية لاتفاق أوسلو إلى استنتاجات مشابهة رأت أنه أسّس لإقامة كيان فلسطيني بصيغة دولة ناقصة، تعيش بجانب دولة الاحتلال بحدود دائمة يعاد رسمها على أساس احتياجاتها الأمنية، وفي الوقت ذاته إبقاء القدس المحتلة، والأمن الخارجي، والاستيطان في أيدي الاحتلال، دون أن يفرض أي حظر على توسعته.