* يتكرر التمييز بين
الشعوب والأنظمة طيلة الوقت، ويزداد الإصرار
(والتكرار) على ممايزة الطرفين في لحظات كهذه، حيث الشلل العام أمام الأحداث
الحالية عقدةٌ يصعب فكّها. ليست المشكلة في التكرار بذاته، الكلام المكرر ليس سيئا
بالضرورة. في حديث المبادئ وأدبيات النضال، هناك عبارات تتحول بالتكرار جدارا
استناديا لمن يعودون إليها، وهي تمنح أنصارها شعورا بالرسوخ والاستمرار وصلابة
الرؤية.
الأمر ذاته في عوالم الإيمان حيث يأخذ التكرار أثرا قُدسيا ووجدانيا. كثيرٌ من طقوس الدين تبدو "عسكرة" لهذه
السمة ودفعا لها صوب حدودها القصوى، لكن الأمر
مختلف تماما في عالم الأفكار. التكرار هنا يثير الشبهة حقا، ويجعلك تتساءل عمّا يجعل
ذات الفكرة تجري على مليون لسان ويلهج بها الكل وكأنها فكرةُ كلِّ واحدٍ منهم،
اخترعها بنفسه. نحن هنا أمام حفلة تنكّر، فما يبدو تفكيرا هو في حقيقته فعلُ تذكّر،
وليست مَلَكة الفكر النقدي من يعمل هنا، بل ذاكرة المفكّر المزعوم. وبدلا من
التخليق والتركيب والتحليل ننتهي لعملية نسخ صمّاء كتلك التي يمارسها صبيان المدارس
وهم يكتبون جملة 10 مرات، لا تمرّسا على الإنشاء وإنما على الإملاء. أسوأ ما في
هذا التذكّر -المتنكر بهيئة التفكير- أنه يمنح صاحبه حسا زائفا بفهم الواقع، بينما
الذي يجري هو أن جهة ما فرضت رؤيتها واحتلّت أفكار الناس؛ أفكار الناس التي لا تعود
حينها أفكارَهم تماما.
* أول مشكلة
في ثنائية "الشعب والحاكم" هو التزييف الذي تمارسه تجاه الواقع.
والتزييف هنا لا يحصل بإضافة شيء من خارج الواقع، وإنما بإقصاء شيء من داخله. هذه
ثنائية تُلزم مستخدميها بالنظر للمشهد من زاوية بعينها ومن مسافةٍ محددة جدا؛
المسافة التي يظهر الواقع من عندها خطا بطرفين؛ حاكم على اليمين، وشعب على اليسار.
وهذا -بشكل عام وفي أي سياق ممكن- هو كل ما يلزم لضبط الوعي العام وتفكير الجماعة: أن
تُشرَط منطلقات التفكير واتجاهاته، لا أن تُملَى مقولاته النهائية. تحت سيف هذا
الاشتراط، يحصل الوهم الشائع بأن المرء يفكّر حقا، وحُرّا، فيما الواقع أن منطلق
التفكير يحدد نتيجة التفكير، والخاتمة تُحسَم بلحظة البدء.
لطالما استُدعيت ثنائية "شعب- حاكم" في أوضاع الشلل العربي، تماما كما هو الحال اليوم. والثنائية مريحة لأنها تعيد إنتاج المشهد وكأنه آتٍ من أدب الأطفال وقصص الناشئة: الشعب الطيب، والحاكم الشرير
* لطالما
استُدعيت ثنائية "شعب- حاكم" في أوضاع الشلل العربي، تماما كما هو الحال
اليوم. والثنائية مريحة لأنها تعيد إنتاج المشهد وكأنه آتٍ من أدب الأطفال وقصص الناشئة:
الشعب الطيب، والحاكم الشرير. ويظهر الشعب هنا وكأنه على شفير الانخراط في معركة كبرى
(أو حتى معارك صغرى) لولا النظام القاهر الذي يمنعه بالقوة. هنا تحديدا تزول
البراءة المحيطة بثنائية الشعب والحاكم ويظهر جانب من زيفها: أن
"العدوّ" غائبٌ عنها وقابعٌ خارجَها ولا يمكن مواجهته قبل أن نحلّ
استعصاء شعب-حاكم. ويحصل انزياح فوري للمسألة من مواجهة عدوّ خارجي لحلّ تعقيد
داخلي، وتنطلق الأدبيات المكررة حينها عن أهمية الديمقراطية والانتخابات والتمثيل
البرلماني وتحرير الفضاء العام وقيمة الحريات. بعد حلّ هذه الإشكالات فقط، يُمكن
أن يُفتح الباب أمام انخراط الجماهير في الفعل النضالي ضد العدو.
* لا يتوقف
الأمر هنا لأن الثنائية (وما يرافقها من ملاحق) تحمل تبريرا ضمنيا للشلل الحاصل،
فالشعب "معذور" لأنه يخشى على قُوْته ورزقه وأمنه الشخصي أمام أجهزة
الحاكم الأمنية. والواقع أن هذه الهواجس -التي تشل حركة الشعب- هي ذاتها ما يدفع
نظامه السياسي لمنعه من التظاهر والتجمهر والعمل الميداني، ناهيك عن أي نشاطٍ
عسكري. النظام أيضا يخشى على القوت والرزق والأمن العام؛ كيف لا وبنية كثير من
دولنا تقوم برمّتها إما على دعامة اقتصادية غربية، أو ضمانات أمنية- عسكرية
أمريكية. وعليه، فالتوتر المدّعَى بين طرفيّ (شعب- حاكم) ليس بتلك الدقة، والناس
هنا حقا على دين ملوكها، والخوف على الأرزاق والأمن يجعل قطاعا واسعا من الجماهير
أقرب لقيادته مما يوحي به التمييز الإنشائي بين الشعب والنظام.
* هناك تضليل
آخر تمارسه الثنائية المذكورة، وهذه المرة من داخلها وبمعزل عن العدو ومفهومه،
فالشخصنة الكامنة في تعبير "حاكم" تسطّح أشياء كثيرة وتحجب الامتداد
البشري العريض لهذه الأنظمة، في جيشها وأجهزتها الأمنية ووحشها البيروقراطي
الكبير. هذه الكتل البشرية المؤسسية ليست حتما على قلبٍ واحد، لكنها نبع الولاءات
الأول للنظام الحاكم ومصنع قاعدته الاجتماعية. فجأة، لا يعود الشعب متمايزا حقا عن
نظامه، فهذا الأخير له حصةٌ كبيرة في شعبه، وأي محاولة لكسر الشلل النضالي تستوجب
مواجهة بين قطاعات اجتماعية، وليس بين شعب ونظام فحسب.
* كل هذا لا
ينفي حقيقة "المزاج الشعبي" والاحتقان الذي يهيمن على قطاعات واسعة من
الجمهور، لكن شلل هؤلاء وعجزهم عن اجتراح الفعل الجماعي اللازم يبقى أكبر الأسئلة:
ما الذي يمنع هذا الوجدان الجماعي من التآزر والخروج من هامش التاريخ. من الواضح
أن عقودا من الحرب على مفهوم الأمة وتسخيف الشعار الوحدوي والهجوم على فكرة
"القضية المركزية" وتعميم المركزيات المحلية بديلا عنها، مِن الواضح أن
كل هذا حقق إنجازا ما بالنهاية، فالمقياس هنا ليست المشاعر الفردية تجاه رابطة
الأمة، وإنما مقدرة تلك الرابطة الوجدانية على تحريك أصحابها وجعلهم مستعدين
للتضحية.
هكذا، تبدو مواجهة العدو استحالة آتية من خارج العدوّ نفسه، ومن خارج إرادة الجماهير، ومعقودة بجدار أصمّ يقف الناس أمامه، لا يملكون منه حولا ولا قوة. نحن هنا أمام طبقات من الأوهام الدفاعية التي تتمترس خلفها القوى المسيطرة والضامنة لديمومة الشلل؛ القوى التي يختلط فيها العدو الخارجي بالسلطة العربية القائمة وبقطاعات اجتماعية موالية، كلها سويا على قلبٍ واحد
* لقد لعبت
الانتفاضات العربية مطلع العقد الماضي دورا كبيرا في شحن الخيال الجماعي بفكرة
الشعب، وبدت الجماهير تبعا لذلك -وبحقّ تام- كائنا أثيرا خارجا من ملاحم التاريخ.
يقف هذا الخيال اليوم أمام ذات الكتلة الشعبية وقد تحوّلت مثالا للنقيض الكامل:
للشلل المطبق. ما الذي صنع هذا التباين في قرابة عقد من الزمن؟ ليس هذا سؤالا
جديدا، وقد تراكمت على أعتابه إجابات كثيرة، بدءا من نجاح الدولة باحتواء الفضاء
الرقمي (إحدى أهم أدوات التمكين وقت الانتفاضات الأولى)، ومرورا بتوطّد اليأس
الجماعي بعد الفشل العارم لمحاولات التغيير، وانتهاء بدور الخارج، الدولي
والإقليمي، في كل ما جرى. وكعادة هذا النوع من الإجابات، فما من سبيل لفحص أيٍّ
منها تجريبيا. لكن يبقى شيءٌ واحد جدير بالقول على مسافةٍ منها جميعا، وهو أن عضلة
الفعل الجماهيري عضلة لا إرادية بالكامل ولا يمكن الركون إليها كحتمية ضمن أي ظرف
مهما بلغت شدته، وأن الشاعرية التي لفّت مفهوم الشعب وإرادته استَهلكت نفسَها
عربيا حتى بوصفها أداة دعايةٍ وتحشيد.
* ليست
إشكالية هذه الثنائية (شعب- حاكم) مقصورة على سوء تصويرها للواقع، وإنما -وهذا
الأسوأ- في شلِّها للقدرة على محاربة الشلل: في تصديرها -أولا- للمسؤولية الفردية
والجماعية صوب سلطة تحلّق فوق الإرادة المجتمعية، ثم في فصل تلك السلطة عن منظومة
العدو الكليّة وتحالفات قوته المهيمنة وآليات فرضها. هكذا، تبدو مواجهة العدو
استحالة آتية من خارج العدوّ نفسه، ومن خارج إرادة الجماهير، ومعقودة بجدار أصمّ
يقف الناس أمامه، لا يملكون منه حولا ولا قوة. نحن هنا أمام طبقات من الأوهام
الدفاعية التي تتمترس خلفها القوى المسيطرة والضامنة لديمومة الشلل؛ القوى التي
يختلط فيها العدو الخارجي بالسلطة العربية القائمة وبقطاعات اجتماعية موالية، كلها
سويا على قلبٍ واحد.