الكتاب: "حرب المئة عام على فلسطين ـ قصة
الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917ـ 2017"
الكاتب: رشيد الخالدي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ـ بيروت، الطبعة الأولى 2017
(358صفحة من القطع الكبير).
وفي 4 حزيران/ يونيو، تناول والترروستو،
مستشارالرئيس الأمريكي،مآل الأمور في مذكرة دبلوماسية؛فاستخدم كل التحفّظات
البيانية الضرورية لجعل الحرب الانتصار"الإسرائيلي" مجرد فرضيات.وشرح
أنّ العرب المعتدلين، وهذا يعني جميع العرب الذين يخشون توسع عبد الناصر، يفضّلون رؤيته
مهزوماً على يدّ "إسرائيل" وليس على يدّ قوى خارجية.عندها ستفتح
احتمالات جديدة: سيسود الاعتدال في الشرق الأوسط بحيث تُركّزالدول على التنمية
الاقتصادية والتعاون الإقليمي.إضافة إلى ذلك، إذا حُلّت مشكلة اللاجئين
الفلسطينيين، سيتم قبول "إسرائيل" كجزء من المنطقة. وإننا حيال مرحلة
تحولات
تاريخية في المنطقة. هكذا، لم تعد "إسرائيل" بحاجة للانتظار، إذ
إنها تلقّت جميع التطمينات الضرورية من واشنطن. واتخذت الحكومة القرارالنهائي في 4
حزيران/ يونيو 1967.
في فرنسا أعلن الجنرال ديغول أمام مجلس
الوزراء في 2 حزيران/ يونيو 1967: "إن الدولة التي ستكون البادئة في استخدام
السلاح لن تلقى تأييداً ولا دعماًمن فرنسا". وفي خطوة منطقية،أعلن مع
انفجارالحرب حظراًعلى إمداد أطراف النزاع بالسلاح. وبعد أشهر،وخلال مؤتمر صحافي -
لم تُحفظ منه سوى جملة مثيرة للجدل عرّف فيها اليهود بأنهم "شعب واثق من نفسه
ومتسلّط" - أضاف أن "إسرائيل" "تنظّم
الاحتلال في الأراضي
التي غزتها، وهذا ما سيؤدي إلى الظلم والقمع والنفي، وحين ستلقى مقاومة ستسميها
إرهاباً ".
ومع مرورالوقت، أصبح هذا التحليل أقرب إلى
النبوءة، مع أنّه كان له وقع الصدمة في حينه. حتىّ قالت مجلة "لو نوفيل
أوبسرفاتور"في عنوانها بتاريخ 7 حزيران/ يونيو: "لماذا تخلىّ ديغول عن
"إسرائيل"، موضحة: "ليس لفرنسا الديغولية أصدقاء بل لديها فقط
مصالح". صحيح أن خيارالجنرال كان بمنزلة قطيعة مع عقودٍ من الدعم غيرالمشروط
لزعماء "إسرائيل" الذين سمحت لهم فرنسا بالتزوّد بالقنبلة النووية ومن
بعدها الهيدروجينية. وقد اصطدم ديغول لدى البعض بشعور الذنب ـ المشروع ـ الذي
خلّفته مشاركة حكومة فيشي في حملة الإبادة على اليهود؛ في حين خرّب لدى آخرين فرحة
الثأر من "العرب"الذي وفرّته "إسرائيل" لمن كان الحنين إلى
الجزائر الفرنسية يسكنهم.
ويجب انتظاراجتياح لبنان ومجازرصبرا وشاتيلا
عام 1982، ومن بعدها انتفاضة الحجارة ابتداء من 1987،كي يتخذ الفرنسيون مسافة من
"إسرائيل" ويدعون إلى قيام دولة فلسطينية مستقلّة مجاورة تكون عاصمتها
القدس الشرقية.
لا يزال العالم العربي يلملم الشظايا
المتناثرة لتلك الهزيمة المدوية.. وحين نتذكر هزيمة حزيران/ يونيو 1967 ، نتذكر ثلاثة
أمور متلازمة:
أولها ـ من المؤكد أن الذي استعار عبارة
"النكسة" من عالم الطب لينقلها إلى عالم السياسة، كان يقصد يومها أن
التحدي السياسي والحضاري والمعنوي والاقتصادي الذي كان يقوده عبدالناصر (في مواجهة
كل الضغوط الخارجية والتحالفات الداخلية، من أهل البيت العرب)، كان يلاطم الأمواج،
ويحقق إنجازات مؤكدة (كسر احتكار السلاح، بناء السد العالي، تأميم قناة السويس،
رفع حجم الأمة العربية في المحافل الدولية إلى أعلى مستوى في التاريخ العربي
المعاصر في كتلة عدم الانحياز والقارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية،
وإطلاق حركة توحيدية لم تشعر الجماهير العربية يوماً، قبلها أو بعدها، بوحدة
مصيرها ومستقبلها ومصالحها)، لكن كل هذه المسيرة تعرضت بعد كل هذه الإنجازات
للتهديد بعد الهزيمة العسكرية المدوية في يونيو/ حزيران 1967 بسبب تراكم أخطاء
مؤكدة، تحمل عبدالناصر في خطاب التنحي مسؤوليتها كاملة دون تنصل، فأدت الهزيمة
العسكرية، إلى انتكاس الخط البياني الصاعد في عقدي الخمسينات والستينات.
على العرب أن يعترفوا بخطورة المشروع الصهيوني في المنطقة وأهدافه التي تتكشف كل يوم من تفكيك للمنطقة وعزلها وتجزئتها.ومنذ هزيمة 1967،انكفأت الدول العربية كل منها على ذاتها،وظهرت تيارات انعزالية تسيطرعلى تفكيرها، بحيث التفتت كل دولة لذاتها، وأسهم في ذلك ما يسمى بالعولمة التي ترمي في مصالح المخطط الأميركي ـ الصهيوني، أبرزها المصالحة مع الكيان الصهيوني ، بحيث تحول الأمرإلى أن بعض الدول أصبحت تابعة لـ "إسرائيل".
ثانيها ـ هزيمة " المشروع القومي
العربي" بشقيه الناصري و البعثي،وهي هزيمة تاريخية عادلة.والواقع أن "
المشروع القومي العربي" كان يعاني من
تأخرالوعي الإيديولوجي السياسي للبلدان العربية التي رفعت لواء الحركة القومية
العربية في مصروالمشرق العربي . إذ إن هذا التأخر التاريخي كان عاملاً حاسماً في
استمرارالوعي المحافظ الامتثالي والتقليدي الذي يرفض تجسيد القطيعة المنهجية والمعرفية مع كل نزعة ماضوية وتقليدية في
تطورمستقبل المسألة القومية العربية على أسس ديمقراطية ،عقب الهزيمة العربية أمام
الإمبريالية الغربية والكيان الصهيوني. علماً أنه من الناحية السياسية
والتاريخية،كان العالم العربي من محيطه إلى خليجه منجذباً بحماسة عاطفية لأهداف
الحركة القومية العربية في التحرروالاستقلال والوحدة.وكانت مصر الناصرية في مرحلة
الستينيات من القرن الماضي مركزاً إقليمياً طليعياً من الناحيتين السياسية
والتاريخية،ومرجعية قومية موثوقًاً بها وقادرة على تفعيل الحيوية الشعبيةالكامنة، إذ
حوّلت هزيمة حرب حزيران التلقف الطوعي، الذي ارتآه الرئيس عبد الناصرتعاطفاً
دافئاً مع رغبة في المشاركة في التعدد وتصحيح الثغرالتي من خلالها حصل النزف ومهد
لمراجعات تبلورت في الصمود وحرب الاستنزاف.
لكن الثقافة السياسية السائدةبعد حزيران
1967 بقيت إلى حدٍ كبيرٍ مدمنة عدم المساءلة، وترفض عملية التحديث في البنية
الفكرية والثقافية للدولة العربية المعاصرة، ذلك أن كل عملية تحررية ثورية حديثة
تقتضي بلورة فكرية حديثة.فالتأكيد على الحداثة الفكرية، هي بمنزلة التأكيد على
جذرية البرنامج السياسي، وبالتالي راديكالية العملية الثورية ذاتها في ظل عالم عربي
متأخر.واستمرالنقد للبنية الفكرية، وبالتالي "للمشروع القومي
العربي" مشبوهاً بكونه معارضة يسارية أو تقدمية أووطنية راديكالية.وحتى يومنا
هذا لا تزال عملية نقد الذات حتى من موقع الالتزام مدخلاً لدى معظم السلطات
العربية إلى التشكيك وبالتالي اعتبارالنقد من موقع الالتزام بالمشروع القومي
العربي نوعاً من التربص.
ثالثها ـ صدور قرارمجلس الأمن الدولي رقم
242 في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 لمعالجة آثار الهزيمة، والذي تضمن ما اعتبر
"مبادئ حل سلمي" للصراع العربي ـ الصهيوني. وبعد انتصار العام 1967، قال
الجنرال موشيه دايان، أبرزمسؤول سياسي في تلك الحقبة، هذه الجملة المشهورة:
"نترقّب اتصالاًهاتفياًمن العرب".
كان يريد أن يحمل على الاعتقاد بأنّه بعد
هذا الإتصال، ستنسحب "إسرائيل" من الأراضي المحتلّة ـ من سيناء وقطاع
غزّة والضفّة الغربية والجولان ـ مقابل اتفاقيات سلام مع العالم العربي. لكن
المؤرّخ طوم سيغيف كشف في كتابه 1967 (غير مُترجَم إلى
الفرنسية Tom
Segev, 1967, Denoel, Paris, 2007)، بأنّ تلك لم تكن في الواقع نيّة الحكومة
"الإسرائيلية". مع أنه جرى النظر إلى موقف "إسرائيل" على هذا
النحو، سواء في العالم أم في الداخل. إنه ينتظر اتصالات الدول العربية معلنة
الاستسلام.
فما الذي حدث منذ حزيران / يونيو 1967 وحتى
الآن؟
على العرب أن يعترفوا بخطورة المشروع
الصهيوني في المنطقة وأهدافه التي تتكشف كل يوم من تفكيك للمنطقة وعزلها
وتجزئتها.ومنذ هزيمة 1967، انكفأت الدول العربية كل منها على ذاتها،وظهرت تيارات
انعزالية تسيطرعلى تفكيرها، بحيث التفتت كل دولة لذاتها، وأسهم في ذلك ما يسمى
بالعولمة التي ترمي في مصالح المخطط الأميركي ـ الصهيوني، أبرزها المصالحة مع
الكيان الصهيوني، بحيث تحول الأمرإلى أن بعض الدول أصبحت تابعة لـ "إسرائيل".
لقد انتصرالمشروع الصهيوني في حرب حزيران
1967، ونجح في إحداث الفرقة بين العرب ،إذ بات يتصوربعضهم أن البعض الآخر يسرق
ثروته. وباتت مفردات "النكسة" تعني الهزيمة في وجه
"إسرائيل"، لكن أيضاً ـ وخصوصا ً- نهاية قاسية للمشروع القومي العربي
بإقامة دولة عربية تقدّمية قوميّة وحديثة كان ينادي بها جمال عبد الناصر
(1918- 1970) الذي تسلم الحكم في مصر في
العام 1952، مع الضبّاط الأحرار،وأصبح الداعي إلى الوحدة العربيّة. وكان لحزب
البعث، الذي أُسّس في العام 1947 تحت شعار"أمة عربية واحدة ذات رسالة
خالدة"نفوذ في صفوف العسكريّين وأوساط الطبقات الوسطى، إذ تمكّن هذا الحزب
الذي يتمتّع بـ"فروع" تابعة له في الدول العربية كافة ،من تسلم السلطة
في سوريا والعراق في مرحلة الستينيات.غيرأنّ العلاقات السيئة والخلافات بين دمشق
وبغداد ،ولا سيما داخل الحركة القومية العربية ستحول دون أيّ تحقيق لوحدة عربيّة.
وقد بلغ هذا المشروع ذروته مع إعلان قيام
الجمهورية العربية المتحّدة بين مصر وسوريا (1958-1961). فخلال نحو عقديْن من
الزمن، بين العاميْن 1950 و1967،أمل العرب في الحصول على فرصة ثانية
للـ"تعويض" عن "النكبة" الأساسية في خسارة فلسطين بين العاميْن
1948و1949. ومع العام 1967، أصبح وجود الدولة العبريّة حقيقة لارجوع عنها، في
حين كان يتّضح في "إسرائيل" الخطاب حول اللاّرجوع عن احتلال الأراضي،
وهكذا تغيّرت معالم اللعبة السياسيّة في المنطقة.
كما أن المشروع الصهيوني انتصرأيضاًفي حرب
أكتوبر 1973. وكان الصراع دائراً بين مشروعين متناقضين، فـ"إسرائيل " ترى
أنها دولة معترف بها من هيئة الأمم المتحدة، بينما يعتبرالمشروع القومي العربي
أن"إسرائيل" دولة دخيلة ولا يمكن الاعتراف بها .وهوالتناقض الذي أدى إلى
حروب ومعارك متتالية،انتهت باعتراف دول
عربية بوجود "إسرائيل"،وبالتالي قد انتصرالمشروع الصهيوني،الذي يستوجب
مقاومته من قبل الشعوب العربية والإسلامية بروح من الصمود في وجهه ولا بديل أمامها
إلا بالالتفاف حول المقاومة.
يقول الأستاذ الخالدي: "شكّل وعد بلفور
والانتداب أول إعلان حرب من قوة عظمى على الشعب الفلسطيني، وكان قرار الأمم
المتحدة في التقسيم سنة 1947 يمثّل الإعلان الثاني، بينما أدت حرب 1967 إلى
الإعلان الثالث، جاء ذلك الإعلان بشكل القرار رقم /SC 242/ الذي صاغته
الولايات المتحدة وتمت الموافقة عليه في 22 نوفمبر 1967، لم تتحرك سياسة الولايات
المتحدة نحو إسرائيل والفلسطينيين على مسار خط مستقيم خلال العشرين سنة بين إصدار
هذين القرارين، ففي السنوات التي تلت حرب 1948 حاولت إدارة ترومان وأيزنهاور بشكل
هادئ وبلا نجاح يذكر إقناع إسرائيل بمنح بعض التنازلات لخصومها المهزومين، وتركزت
جهودهم على عودة حوالي 750,000 لاجئٍ فلسطيني إلى ديارهم واستعادة ممتلكاتهم التي
سلبتها إسرائيل، وعلى التراجع عن الحدود المتوسعة التي حصلت عليها إسرائيل
بانتصاراتها سنة 1948، تبخَّرت هذه المحاولات الأمريكية المتواضعة أمام إصرار
ديفيد بن غوريون الذي رفض التراجع والتنازل في المجالين معاً.
شكّل وعد بلفور والانتداب أول إعلان حرب من قوة عظمى على الشعب الفلسطيني، وكان قرار الأمم المتحدة في التقسيم سنة 1947 يمثّل الإعلان الثاني، بينما أدت حرب 1967 إلى الإعلان الثالث،
حافظت إدارات ترومان وأيزنهاور وكينيدي على
علاقات وثيقة مع إسرائيل مع زيادة المساعدات الاقتصادية للدولة الجديدة على الرغم
من أنهم لم يعتبروا ذلك عنصراً أساسياً لسياستهم في المنطقة ولم يوافقوا على جميع
تصرفاتها، أجبر أيزنهاور إسرائيل على التراجع من سيناء وقطاع غزة بعد حرب السويس
سنة 1956، كما حاول كينيدي بعد ذلك وفشل في منع إسرائيل من تطوير أسلحتها النووية،
وفي بداية الستينيات تصوّر كينيدي أن القومية العربية ومصر عبد الناصر ربما تكون
حصناً ضد الشيوعية التي كانت الهمّ الأمريكي الأول في الشرق الأوسط، كان ذلك جزئيًابسبب
أحداث العراق حيث كان نظام عبد الكريم قاسم مدعوماً من الحزب الشيوعي العراقي
والاتحاد السوفييتي، وكانت مصر تعارضه بشدة مع حلفائها القوميين"(150).
كان قرار مجلس الأمن رقم 242 نتيجة لهذا
القبول الجديد لمكاسب إسرائيل في احتلال الأرض، تمت صياغة القرار بشكل أساسي على
يد اللورد كارادون ممثل بريطانيا الدائم، ولكنه كان في الواقع يمثل وجهات نظر الولايات المتحدة وإسرائيل، كما
عكس موقف الدول العربية الضعيف وراعيها الاتحاد السوفييتي بعد هزيمة يونيو
الساحقة، على الرغم من أن القرار /SC 242/ أكّد على
"عدم قبول مبدأ الاستيلاء على أراض من خلال الحرب" إلا أنه ربط أي
انسحاب إسرائيلي باتفاقيات سلام مع الدول العربية وضمان تأسيس حدود آمنة، يعني ذلك
عملياً أن أي انسحاب سيكون مشروطاً ومُتأخراً بالنظر إلى تردد الدول العربية في
دخول مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وبالفعل، لم يتم الانسحاب من الضفة الغربية
والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان بعد مرور أكثر من نصف قرن وبعد مرور عقود من
المباحثات المباشرة وغير المباشرة.
كما أن ربط الانسحاب الإسرائيلي من أراضٍ
محتلة بخق حدود آمنة معترف بها قد سمح حسب القرار /SC 242/ بأن تنطبق
شروط الحدود الآمنة على حدود إسرائيل المتوسعة كما تُقررها إسرائيل لنفسها، وهكذا
فقد قامت هذه الدولة العظمى في منطقتها والمسلحة نووياً بتطبيق تفسير توسُّعي مرن
غير عادي لهذه الشروط، وأخيراً فقد سمحت لغة القرار /SC 242/ الغامضة بوجود
ثغرة مفتوحة أخرى أتاحت لإسرائيل فرصة الاحتفاظ بمناطق محتلة: فقد حدد النص
الإنكليزي "الانسحاب من مناطق محتلة" في حرب 1967 بدلاً من ذكر
"الانسحاب من المناطق المحتلة" أصرّ آبا إيبان على مجلس الأمن أن حكومته
ستعتبر النص الإنكليزي الأصلي مُلزِماً وليس النص الرسمي الفرنسي المماثل الذي
وردت فيه جملة "الأراضي المحتلة" بشكل لا يحتمل التأويل. تصرّفت إسرائيل
بكل حرية واستغلت هذه الثغرة اللغوية على مصر نصف قرن بمساعدة أمريكا التي سمحت
لها باستيطان المناطق المحتلة من فلسطين وسورية، وكان من بينها القدس الشرقية
ومرتفعات الجولان التي اقتطعتها وضمتها رسمياً واحتفظت بسيطرتها العسكرية
اللانهائية في تلك المناطق، استنكرت وشجبت الأمم المتحدة هذه الأعمال دون أن تُرفق
استنكاراتها المتكررة بأي إيحاءٍ من العقوبات ولا بتطبيق أي ضغط حقيقي على
إسرائيل، ولم ينتج عن ذلك سوى قبولها الدولي الضمني.
أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية الآن في
صف إسرائيل تماماً أكثر مما كانت عليه من قبل، مما يعني التخلي عن التوازن الشكلي
الذي أظهرته إدارات ترومان وإيزنهاور وكينيدي أحياناً، تلك كانت بداية ما أصبح
الفترة الكلاسيكية من الصراع العربي الإسرائيلي التي استمرت حتى نهاية الحرب
الباردة، وطورت خلالها أمريكا وإسرائيل تحالفاً فريداً شاملاً (ولكن غير رسمي)
ارتكز أساساً على أن تظهر إسرائيل نفسها سنة 1967 كشريكٍ يعتمد عليه ضد من
اعتُبروا عملاء للاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط.
جلب هذا التحالف شبه التام على الفلسطينيين
تدخلاً عدوانياً آخر من طرف قوة عظمى أضرّ بحقوقهم وبمصالحهم وأعطى رخصة دولية
جديدة لسلب ممتلكاتهم، وكما حدث سنة 1947 ظهرت معادلة جديدة دولية قانونية ضارة
بالفلسطينيين من خلال قرار للأمم المتحدة، وكما حدث في وعد بلفور سنة 1917 لم تضم
الوثيقة الرئيسية أي ذكر لفلسطين ولا للفلسطينيين.
تعامل قرار مجلس الأمن رقم 242 مع القضية
برمتها كمسألة بين الدول العربية وإسرائيل ومحا ذكر الفلسطينيين، لا يشير النص إلى
الفلسطينيين ولا إلى أكثر عناصر المسألة الفلسطينية الأصلية، وبدلاً عن ذلك أشار
القرار بشكل عام إلى "حل عادلٍ لمشكلة اللاجئين"، إذا لم يُذكر
الفلسطينيون ولم يُعترف بهم كطرف في النزاع، يمكن معاملتهم كمصدر إزعاج لا أكثر،
أو كقضية إنسانية في أفضل الأحوال، وبالفعل، بعد سنة 1967 تم الاعتراف بهم غالباً
في سياق الإرهاب الذي طرحته إسرائيل وتم اعتماده من الولايات المتحدة الأمريكية.
اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى وكوارث
اتفاق أوسلو
كانت الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت في
ديسمبر 1987 مثالاً نموذجياً لقانون النتائج غير المقصودة، شن آرييل شارون ومناحم
بيجن اجتياح لبنان للقضاء على قوة منظمة التحرير الفلسطينية وبالتالي إنهاء
المعارضة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة لضم تلك المناطق
إلى إسرائيل، وبذلك ستكتمل المهمة الاستعمارية للصهيونية التاريخية بتأسيس دولة
يهودية في كامل فلسطين، نجحت حرب 1982 في إضعاف منظمة التحرير ولكن النتيجة
المُفارِقة كانت تقوية الحركة الوطنية الفلسطينية داخل فلسطين نفسها ونقل مركز
نشاطها من خارج إلى داخل البلاد، بعد عقدين من الاحتلال الذي أمكن التحكم فيه
نسبياً فإن بيجن وشارون النصيرين المتحمسين لفكرة إسرائيل الكبرى قد أشعلا من دون
قصد مستوى جديداً من المقاومة لعملية الاستعمار انطلقت المقاومة ضد استيلاء
إسرائيل وحُكمها العسكري في فلسطين بشكل متكرر وبأشكال مختلفة منذ ذلك الحين.
أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية الآن في صف إسرائيل تماماً أكثر مما كانت عليه من قبل، مما يعني التخلي عن التوازن الشكلي الذي أظهرته إدارات ترومان وإيزنهاور وكينيدي أحياناً، تلك كانت بداية ما أصبح الفترة الكلاسيكية من الصراع العربي الإسرائيلي التي استمرت حتى نهاية الحرب الباردة،
على الرغم من التأثير الضار لحرب 1982 على
موقف إسرائيل، فإن جهود العلاقات العامة الماهرة لتلك الدولة قد نجحت في إعادة
تخدير كثير من الرأي العام الأمريكي، ولكن على العكس من قصف لبنان عن طريق الجو
والمدفعية الذي انتهى بعد عشرة أسابيع، فإن عنف الانتفاضة على الأرض استمر سنة
قاسية بعد سنة أخرى من ديسمبر 1987 حتى 1993، انخفض قليلاً خلال حرب الخليج ومؤتمر
السلام الذي نظّمته الولايات المتحدة بمدريد في أكتوبر 1991، وخلال ذلك الوقت
قدّمت الانتفاضة مناظر محزنة لمعارك شوارع بين متظاهرين فلسطينيين شباب وقوات
إسرائيلية مدعمة بعربات مدرعة ودبابات، كانت الصورة المبدعة من تلك الفترة هي صورة
طفل فلسطيني صغير يرمي بحجر على دبابة إسرائيلية ضخمة.
جاء اتفاق أوسلو حساب الحقوق الأساسية
والمصالح الأساسية للشعب الفلسطيني والأمة العربية، نظراً لتنازل قيادة عرفات عن
حقوق شعبها الأساسية ومصالحه الأساسية.فاتفاق أوسلو لايحل مشكلة بل يصفي القضية
الفلسطينية من خلال التنازل عن جوهر القضية، وهذا المنهج متناقض جذرياً مع التراث
النضالي للشعب منذ عام 1897. كما أن اتفاق أوسلوالذي قبلت به القيادة الرسمية
الفلسطينية على أساس وجود الكيان الصهيوني وشرعية اغتصابه لفلسطين، يُسَلم بشرعية
وجود الكيان الصهيوني على أكثر من 90 % من فلسطين ويجعل هذه القيادة تتنازل عن
الشعب الفلسطيني.
فإذاكانت السلطة الفلسطينية ستسيطر على
مايقرب من 2456كم مربعاً موزعة بين الضفة الغربية(2240 كم مربعا) وغزة(216 كم
مربعاً) , فإن هذه المساحة تقل ب244 كم مربعاً،عن عشر مساحة فلسطين الانتدابية
التي تبلغ 27 ألف كم مربعاً، إذ تمثل مساحة الضفة الغربية منها 5600 كم مربعاً، أي
مايفوق خمس مساحة فلسطين ب200 كم مربعاً، من المفترض وفقا للمبادرة الأمريكية
للسلام المتمثلة في مسار أوسلوأن تسيطر السلطة الفلسطينية على 40 % من مساحة الضفة
الغربية. فهذا الاتفاق يعتبر ثمرة من ثمار اتفاق أوسلوالذي كرس سيادة صهيونية شبه
مطلقة، وشكل استجابة كبيرة للإملاءات والشروط الصهيونية بضم القدس، والتغاضي عن
المستوطنات، وإعطاء الأولوية للكيان الصهيوني لكي يحدد المناطق الأمنية، والاحتفاظ
بمعظم أراضي الضفة الغربية، وجعل حياة الفلسطينيين مرتهنة للصهاينة في جميع
المجالات الأمنية سكان الضفة الغربية وغزة، مقابل التنازل عن سكان الأراضي المحتلة
عام 1948، والتسليم بتشريدهم لمصلحة الكيان الصهيوني، وسكان الأردن لمصلحة النظام
في الأردن، وسكان الشتات لمصلحة الشيطان، من دون أن تمتلك قيادة عرفات أية ضمانات
لرحيل الاحتلال عن الضفة الغربية، ولا لحل مشاكل الفلسطينيين الموزعين في مختلف
الأقطار العربية وأرجاء الدنيا.
إن اتفاق أوسلو لايقوم على أساس قيام دولة
فلسطينية، لأن أي استقلال حقيقي على أي شبرمن الأرض الفلسطينية، لن يكون خارج
إطارالصراع العربي مع الصهيونية والإمبريالية الأميركية، فأين اتفاق أوسلومن مشروع
الاستقلال الفلسطيني والدولة الفلسطينية في حين أن شروط الاستقلال والدولة غير
قائمين. فالدولة عادة ما تأتي بعد تحقيق
ركنين أساسيين للدولة، وهما: الأرض و الشعب. فهي تاتي لتمارس السيادة على الأرض و
الشعب .
أما في الحالة الفلسطينية، فالسلطة
الفلسطينية وجدت في إطار تسوية و ضمن اتفاقيات أوسلو الذي تكبل تحركها و تجعل كل
خطوة من خطواتها ، ولا سيما ذات الطابع العسكري مرهونة بالموافقة الإسرائيلية و
الأميركية. وبينما يريد الشعب الفلسطيني أن تقوم السلطة الفلسطينية بمهمة مزدوجة،
أي استكمال تحرير الأرض و لملمة شتات الشعب الفلسطيني، و التأسيس للدولة
الفلسطينية،فإن السلطة الفلسطينية دأبت على خدمة أهداف المخطط الأميركي الصهيوني
الذي يمهد للكونفدرالية مع الأردن كخطوة على طريق استيعاب الهجرة من فلسطين إلى
الأردن انطلاقاً من أن الجماهير تقيم في دولتها، للتخلص من القطاع الأوسع من
الفلسطينيين في إطار تطبيق سياسة التهويد وما يترتب على ذلك لاحقاً إقامة وطن بديل
في الأردن، الأمرالذي يرتب صراعات على الساحة الأردنية لن تخدم إلا العدوالصهيوني.
إن هذه "الدولة الفلسطينية " بلا
حدود مع الجوار العربي، ويحيط بها الكيان الصهيوني من كل صوب، وجغرافيتها من
الداخل ممزقة ومخترقة إما بمستوطنات ومعسكرات " إسرائيلية " أوبطرق
التفافية تسيطر عليها قوات الاحتلال، ومن غير المسموح لها أن تنشىء جيشاً أوتكوّن
قوة من أي نوع. ودولة بلا قوة تحمي السيادة أوتؤسس لها، تمثل الوهم بعينه.
لا شك أن منطق السلام الأمريكي لا يعكس
الشرعية الدولية ومبادئها ودور الأمم المتحدة في مؤتمرالسلام بشأن تسوية الصراع
العربي ـ الصهيوني، لأن الموقف الأميركي من السلام الذي يمثل السياسة الخارجية
الأميركية عملياً منذ أن نجح " هنري كيسنجر " في السيطرة على شؤون الشرق
الأوسط هوالدفاع عن ضرورة رفض " إسرائيل الكبرى " لأية انسحاب، وضرورة
استمرار سيطرتها على الأراضي المحتلة.
ثم إن الموقف الأمريكي من
"السلام" منذ مشروع أيزنهاور عام 1957، ومشروع روجرز عام 1970، ومشروع
ريغان عام 1982، ومبادرة الرئيس بوش تتمثل في خوض معارك التدخل والسيطرة بأساليب
مختلفة على كل العالم العربي عبرالوجود العسكري المباشر، والقواعد والتسهيلات
العسكرية، من خلال إعادة الكمبرادورية كاملة من أقصى العالم العربي إلى أقصاه،تحت
اسم التطبيع مع الكيان الصهيوني بمضمونه المعروف التخلي عن إقامة دولة فلسطينية،
والخضوع لرأس المال الاحتكاري العالمي، والغزوالثقافي، وهيمنة المصالح النفطية على
الصعيد الإقليمي وتركيز السلطة في الأقطار العربية في أيدي الفئات والطبقات
الكمبرادورية الجديدة، المرتبطة بنيوياً بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية
و"إسرائيل" ومصالحهما في المنطقة.