الكتاب: الدولة والأوقاف العامة بالبلاد التونسية، من الاحتواء إلى الإلغاء (1858-
1965)
الكاتبة: أمينة العوني
الناشر: مجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص، تونس 2023
عدد الصفحات: 394 صفحة.
ـ 1 ـ
اضطلع نظام الأحباس (والمصطلح هو المعادل المغاربي المستعمل في
الإيالات المغاربية في المرحلة العثمانية، لكلمة "
الأوقاف" المعتمدة في المشرق الإسلامي. كان للأحباس (أو التحبيس أو الحبس) بدور اجتماعي واقتصادي مهم في بلدان
العالم الإسلامي. فمثّل موضوعا للبحث. فدرس من اتجاه فقهي قانوني بالأساس يشمل
نظام أحكامه الفقهية وقواعده القانونية أو من منطلق
تاريخي يطرح كيفية التصرف فيه
في ظرفية معينة، أو من جهة إسهامه في الميدان الاجتماعي كالتعليم والصحة، أو صيغ
استغلاله.
ومن هذا المنطلق الثاني تتناوله الباحثة في التاريخ المعاصر أمينة
العوني. فتدرس، في كتابها "الدولة والأوقاف العامة بالبلاد التونسية، من الاحتواء إلى الإلغاء (1858- 1965)"،
وهو في الأصل أطروحة دكتوراه أنجزت بالجامعة التونسية، مرحلة تراجع إشعاعه حتى إلغائه بعد الاستقلال.
ومن هذه الزاوية التأريخية خاصّة يكتسب البحث أهميته. فتكمن طرافته، وفق الباحث
الأزهر الغربي "في البحث في جدلية العلاقة بين كيان سياسي ومدني هو الدولة،
وكيان ديني واجتماعي هو منظومة الأوقاف التي تعودت المجتمعات الإسلامية على التحرك
في إطارها بعيدا عن حيز السلطة السياسية ورقابتها." ولعلّ ووجه المفارقة أن
تتمثّل في كونه يعتمد غالبا وفق المذهب الحنفي رغم أن المذهب المالكي كان سائدا في
البلاد. ويعود ذلك إلى أنّ الممسكين بالثروة كانوا من الحنفيين، مذهب الدولة
العثمانية على خلاف الشرائح الواسعة من المجتمعات المغاربية المالكية.
ـ 2 ـ
يطرح الكتاب إشكاليات مختلفة. منها علاقة الدّولة التونسية بالأحباس
العامة، في فترة تراجعه والاستراتيجيات التي اتبعتها السلطات الحاكمة المختلفة في
التّعاطي معه، سواء تعلّق الأمر بحكم البايات أو سلطة الحماية الفرنسية أو دولة
الاستقلال بعدهما. وتمتدّ الفترة المدروسة
نحو قرن من الزّمن. فتبدأ مع تم تركيز أول بلدية بالبلاد سنة 1858.
فقد مثّل ظهور البلديات تجديدا في مجال التنظيم
الإداري والمراقبة الاجتماعية للمجال الحضري للعاصمة ومظهرا من مظاهر المشروع
التعصيري الذي شمل كامل مفاصل الدولة. وصادف ذلك رغبة الحكّام في تطويع هذا
النّظام فألحقوه بها. وتنتهي المدّة المدروسة بحصول البلاد على الاستقلال التّام
سنة 1956. وتمثّل هذه المرحلة الطور الثاني من التحديث في البلاد. ولكنها تمّت تحت
راية الدولة الوطنية ووفق تصوّر الخاصّ للمشروع المجتمعي للبلاد الذي قادته النخب
السياسية وقتها. وسيكون لهذا الأمر تبعاته الحاسمة على مصير هذا النّظام الخاصّ في
الملكية العقارية.
لقد جاءت دراسة تأليفية. فضمت الفترات الثلاثة وخصّت كل فترة منها
بباب خاصّ. واستندن إلى التحليل التاريخي ومعتمدة المصادر الأرشيفية. وكثيرا ما
كانت تلجأ إلى مقارنة وضع هذه الأحباس والإجراءات المعتمدة بالوضع في الجزائر أو
مصر.
ـ 3 ـ
جاء الباب الأول بعنوان "من الأحباس الخيرية إلى الأحباس
العامة: مأسسة الأحباس أم محاولة احتوائها من قبل البايات"؟. فينطلق من معطى
خاص. فيشير إلى أنّ الأحباس الخاصة، فضلا عن دورها الاجتماعي الذي لا ينكر، كانت
حيلة يلجأ إليها الأعيان والأثرياء أحيانا لحماية ثرواتهم من المصادرة عبر إضفاء
إضفاء صبغة من القداسة عليها. فقد كان "منسوب الإقبال على التّحبيس يتزايد
توازيا مع ارتفاع منسوب الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي وتشترك في ذلك الأحباس
الخاصة والخيرية أو العامة." وفق الباحث الأزهر الغربي.
ولكن هذا الإجراء لم يعد قادرا على حمايتها بعد أن اشتدت أزمة الدولة
الاقتصادية بداية من النّصف الثاني من القرن التاسع عشر. فقد اتجهت أطماع البايات
إليه لاحتوائه وللاستفادة من مقدّراته، بعد أن كان الباشاوات والدايات قبلهم
يعتمدون على القرصنة لتوفير الأموال اللازمة. ولتغيّر موازين القوى حصل تحوّل مهمّ
مع السلالة ومع العائلة الحسينية في
القاعدة المادية للدولة. فقد سعت إلى الاستيلاء على الثروات الداخلية من أراض
وعقارات وريع عقاري وجباية وغيرها.
أمّا الأحباس الخيرية فكانت تمثل ثروة خارجة عن
نفوذها. وكان عليها أن تخترق الحصانة والاستقلالية اللتين منحهما له الفقه وأن
تتجاوز "قدسيتها". فأخرجتها من بعدها الخيري، إلى الصبغة العمومية.
فوضعته تحت إدارة بلدية الحاضرة في مرحلة أولى ثم أشرف عليه العسكر في مرحلة
ثانية. وأصبح يُسمى ابتداء بالأوقاف العامة.
مثل هذا الإجراء الثّاني قرارا استفزازيا. فنفقات العساكر من مسؤولية
الدولة وليست من العمل الخيري المراد من هذا النّظام في شيء. ولمّا تفاقمت أزمته
لأسباب مختلفة، ومنها هذا التّداخل بين الأدوار والمسؤوليات طرح خير الدين باشا
أثناء وزارته 1873-1877 منظومة إصلاحية شاملة له. فبعث مؤسسة تديره قوامها التوفيق
بين الدين والدولة وتجنّب أي تداخل بينهما. وأخضعها لقانون داخلي ينظم مختلف
تعاملاتها إداريا وماليا. وينخرط هذا الإجراء ضمن برنامجه الإصلاحي الذي عمل على
المأسسة الفعلية للأحباس والانتقال بها من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام أو من
حيّز الدين إلى حيز الدولة. ولكن سريعا ما أجهض هذا التنظيم لأنه كان يكفّ يد
السلطة على مدّخراته.
ـ 4 ـ
في الباب الثاني المعنون بـ"استراتيجية دولة الاستعمار في
السيطرة على الأحباس 1956-1881" تدرس الباحثة وضعية هذه الأراضي في عهد
الحماية وللسياسة الاستعمارية. فتبرز أنّ المستعمر، اعتمد سياسة مخالفة للسياسة
الإنجليزية تجاه أوقاف البلدان الشرقية وأنه جعل منها أداة لخدمة الاستعمار
الزراعي الذي انتهجته بالبلاد. فقد كانت مقدّراتها هدفا إستراتيجيا له. وتمثلت
سياسته "أساسا في اتباع إستراتيجيا قائمة على اعتماد صيغ شرعية كالإنزال
والمعاوضة وتحويلها إلى منافذ فقهية حقيقية، وتتمثل قمة الاستفزاز في محاربة شخص
بسلاحه خاصة وأن هذه القوانين المحلية قد ساهمت في انتزاع آلاف الهكتارات من أخصب
الأراضي المحبسة".
رغم ما للأوقاف أحيانا من الجدوى فإنها غالبا ما تمثّل كيانا قائم بذاته مواز للدولة. فلا تقتصر على تأمين الخدمات الاجتماعية بل تتجاوزها لتحل محلها في غالب الأحيان. ومن هنا مثلت موضوع رهان سياسي لبعض الأطراف ومثلت موضوع رفض لأطراف أخرى.
وسعى إلى استنزافها بوسائل عديدة. وأوجد منافذ قانونية للسيطرة على
أخصب أراضيها. ففرض تسليم 2000 هكتار منها كل سنة لوزارة الفلاحة، امتدت من سنة
1898 إلى بداية الأربعينات. واخترق جمعية الأوقاف فنصّب عليها عناصر تسهّل له وضع
يده عليها. وكفل ولاءها بأن قصر عضويتها
على من خدمه وأجزل لأعضائها العطاء من مالها نفسه. ولم يسعفها بالإصلاحات الضرورية
حتى ينقذها من الإفلاس. وعامة فقد سعى بكل آلياته إلى إضعافها إضعافا ممنهجا. ولكن
في الآن نفسه، لم يعمل على القضاء عليها خوفا من إثارة حفيظة المجتمع المحلي
واتعاظا من تجربته في الجزائر. أما دولة
الاستقلال ستفعل ذلك، بدل "أن تسعى النخبة الحاكمة إلى انتهاج منهج مصلحي
القرن التاسع عشر فتعتمد على الأحباس للخروج من الظرفية الصعبة للطور الأول
للاستقلال السياسي".
ـ 5 ـ
وتعرض الباحثة في الباب الثالث الذي وسمته بـ" من انتزاع دولة
الاستعمار إلى إلغاء دولة الاستقلال"، سياسة الدولة الوطنية الناشئة تجاه هذا
الصنف من العقارات. فقد كانت أمام خيارين اثنين: أن تتبناه، فتصلحه وتخضعه
لبيروقراطيتها أو أن ترفضه، فتعتمد إزاءه سياسة الإهمال واللامبالاة. ولكن نظام
بورقيبة تعامل بجرأة مع الموضوع. واختار سياسة حاسمة. فقد وجد في هذا النظام ذي المرجعية الدينية
عنصرا مكبلا للاقتصاد. فقرّر إلغاءه نهائيا وحجّر اعتماده في المستقبل تحجيرا
تاما. بُرر القرار وقتها بكونه يتنزّل ضمن عمل الدولة على إرساء سيادتها على كلّ
أراضي البلاد وضمن رغبتها في التخلص نظام عقاري تجاوزته الظرفية الجديدة.
انخرطت هذه الإجراءات ضمن مشروع متكامل ألغى التعليم الزيتوني وأبطل
العمل بالمحاكم الشرعية وأصدر مجلة الأحوال الشخصية التي منعت تعدّد الزوجات، وضمن
مشروع سياسي طوّع المؤسسة الدينية وجعل لها مصلحة تابعة لرئاسة الحكومة مباشرة
تسهر على الشعائر الدينية وتراقب القائمين عليها فأضحت الدّولة من يمثّل
الدين. وانخرط ذلك كلّه ضمن
"إستراتيجية حداثية بمنظور بورقيبي كانت الغاية منها تغيير البني والهياكل
الاقتصادية الاجتماعية للبلاد التونسية، فهو يؤسس بذلك القاعدة المادية المجتمع
جديد يقطع مع الماضي ومؤسساته".
ـ 6 ـ
تمثل الوثائق ذات الصلة بموضوع التحبيس، بصرف النّظر عن أبعاد
انتشارها فرصة لدراستها من منطلق موضوعي يضعها على محك التاريخ وينزلها ضمن
استراتيجيات مختلف الفاعلين الاجتماعين لتبيّن سياسة الدولة في مراحلها المختلفة
في التعاطي مع الموضوع. وفي هذا السياق أبرزت الباحثة أمينة العوني أنّ إدارة
المجتمع في البلاد التونسية حتى منتصف القرن التاسع عشر اعتمدت على نوعين من
التنظيم، عامٍ يتمثل في الدولة بسلطاتها ومؤسساتها وقوانينها وخاص أو مواز يتمثل
في الأحباس الخيرية.
ورغم استقلاليتها التامة عن الدولة، مثلت عنصرا مكملا لها في الحقل
الاجتماعي من صحة وتعليم ورعاية للفقراء وإعالتهم وغير ذلك من الأعمال الخيرية وفي
رعاية المؤسسات العامة كالمدارس والجوامع والزوايا والحمامات بتوفير مصادر دخل
لها. فكان هذا النّظام يعاضد الدولة بأن يعفيها من نفقات وأعباء كثيرة. غير أن
الفترة الممتدّة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين مثّلت فترة
تراجعه وخضوعه لإرادة الحاكم ليوظفه لصالحه، بداية من دولة البايات وانتهاءً
بسلطات الحماية الفرنسية.
أما الدولة الوطنية التي كانت تتبنى تصورا حداثيا للمجتمع، فقد
تخلّصت منه تماما لأنه كان يمنع بسط سلطة الدولة على مختلف مقدّرات البلاد أولا
ولأنه قد يمثّل دعامة لأصحاب الخلفيات الدينية لتحشيد الرأي العام وكسب الأنصار
ممن يستفيدون من ريعه. تقول الباحثة "الحقيقة أن قرار إلغاء الأحباس أو
الإبقاء عليها هو موضوع جدل لا ينتهي و موضوع تجاذبات دائمة على اعتبار أنه موضوع
تتشابك فيه العديد من العناصر الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فعقب
الاستقلال اعتبر إلغاء الأحباس من مظاهر العلمانية كما اعتبر نقطة البداية في توتر
العلاقة بين الديني والسياسي.
وظل هذا الموضوع من المسكوت عنه لفترات طويلة ببلادنا ثم عاد إلى محك
البحث والمناظرة إثر ثورة 2011 وذلك بمحاولة تمرير مشروع قانون يعيد الأوقاف
العامة إلى سالف نشاطها خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها
الدولة وفي سياق الاطلاع على تجارب أخرى اعتمدت الوقف كوسيلة للتنمية".
ولكنها تنتهي إلى أنّ ظاهرة الأحباس ارتبطت بظرفية لم تكن فيها الدولة تمتلك سياسة
للرعاية الاجتماعية.
ولكن ورغم ما للأوقاف أحيانا من الجدوى فإنها غالبا ما تمثّل كيانا
قائم بذاته مواز للدولة. فلا تقتصر على تأمين الخدمات الاجتماعية بل تتجاوزها لتحل
محلها في غالب الأحيان. ومن هنا مثلت موضوع رهان سياسي لبعض الأطراف ومثلت موضوع
رفض لأطراف أخرى.