حقاً، أيضاً، لقد أصبحوا قلة إلى حدّ الندرة، أولئك الذين يحملون همّ
القدس والضفة الغربية، كحال الذين أصبحوا قلة، إلى حدّ الندرة، في حمل همّ المقاومة المسلحة كما حمل همّ الحصار المضروب على قطاع غزة.
المقصودون هنا الكثرة من النخب الذين أصيبوا بالبكم والصمم بالنسبة إلى ما تتعرض له القدس والضفة الغربية من تهويد واستيطان، أو بالنسبة إلى دعم النضالات البطولية التي يشنها المقدسيون (أبناء القدس وضواحيها)، أو شباب
الضفة الغربية وشاباتها في مواجهة
الاحتلال والتهويد والاستيطان، ناهيك عن الدور الذي تؤديه الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية في قمع خلايا المقاومة، أو ضرب أي حراك ضدّ قوات الاحتلال.
وحقاً، وأيضاً، يستطيع المرء أن يتفهم، بل يجب أن يتفهم انشغال تلك الكثرة في التحديات التي راحت تعصف في
الوضع العربي، ولكن هل ثمة مسوّغ لعدم إيلائهم جزءاً صغيراً من الاهتمام بالقدس والضفة الغربية، كما يهتمون بكثير من شؤونهم الخاصة بالرغم من انشغالهم الضروري، والحق، في التحديات الخطرة، كما الواعدة، التي تواجه شعوبنا في هذه المرحلة.
فالمطلوب منهم هنا بعض الاهتمام، أو القليل من الاهتمام، بالقدس والضفة الغربية، ثم لا حاجة إلى تذكيرهم بأنهم في كل مرة يؤكدون على أولوية القضية الفلسطينية ومركزيتها ودعم نضال الشعب الفلسطيني، وبعضهم إن لم يكن أكثرهم لهم تاريخ مشرف في المشاركة مع المقاومة.
السؤال لماذا أصيبوا بالبكم والصمم في هذه الأيام عن موضوع القدس والضفة الغربية كما موضوع حصار قطاع غزة، الذي يستهدف نزع سلاح المقاومة المسلحة؟
هل تكفي حجة الانشغال في التحديات الكبرى المستجدة في تفسير كل هذا السكوت المطبق، أم ثمة أسباب أخرى طارئة يفضل عدم البحث عنها وتحليلها والذهاب إلى أقصى مراميها.
طبعاً لم يصل الإشكال هنا إلى تخطي حجة الانشغال ومن ثم السكوت العفوي والبريء، بل من الخطأ البحث عن أسباب أخرى حرصاً على إصلاح الموقف، وعلى تجنب التجني والتسرّع والانسياق وراء الغضب من السكوت المطبق، فالمجال ما زال مفتوحاً للتذكير، ولا بد من أن تنفع الذكرى.
هذا كله عتب أو نقد ينطلق من المبدأ، أو هو من حيث المبدأ، لأن الموقف الأساسي الذي ما زال مسلماً به هو اعتبار القضية الفلسطينية ذات الأولوية والمركزية، كما دعم المقاومة المسلحة والانتفاضة الشعبية في فلسطين هو المسلمة الثانية، والمرتبطة عضوياً بالأولى.
على أن المُسْتَعجَل في إثارة موضوع الساكتين عن القدس والضفة الغربية فيأتي من تفاقم إجراءات التهويد والاستيطان في كل من القدس والضفة الغربية من جهة، كما من تعاظم المقاومة الشعبية والشبابية للاحتلال بما يلوّح باقتراب انتفاضة القدس، لتلحق بها انتفاضة شاملة في الضفة الغربية كلها من جهة ثانية.
لقد تراجع المشروع الصهيوني عن طموحه في السيطرة على ما يسميه الشرق الأوسط أو عن بناء شرق أوسط جديد تحت الهيمنة الأمريكية وهيمنته، وذلك بعد أن انحسرت، أو تراجعت، إلى حد بعيد، السيطرة العالمية الأمريكية – الأوروبية، ولا سيما خلال الأربع سنوات الماضية خصوصاً في المنطقة التي تشمل البلاد العربية وتركيا وإيران، وقد حدث ذلك التراجع الكبير بعد فشل إدارة جورج دبليو بوش في تثبيت الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان.
وبعد هزيمة جيش الكيان الصهيوني في حربه على المقاوم في تموز/يوليو 2006 إلى جانب حربه على المقاومة في قطاع غزة 2008/2009، ثم كلل ذلك بالأزمة المالية التي عصفت بالعولمة 2008. وقد جاءت جملة من الأحداث خلال الأربع سنوات الماضية على المستوى العالمي، في ما بين كل من روسيا والصين في مواجهة أمريكا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً (سباق تسلح)، ولا سيما في عدد من الدول العربية، فضلاً عن حربين ضد المقاومة في قطاع غزة أو المواجهة الأخيرة مع حزب الله في مزارع شبعا، لتؤكد (جملة الأحداث) حقيقة ذلك التراجع الكبير للسيطرة الأمريكية- الصهيونية.
لقد ترجم هذا التراجع من جهة المشروع الصهيوني من خلال تخليه عن "الشرق أوسطية" إلى الانحسار والتقزم في مضاعفة التهويد والاستيطان في القدس والضفة الغربية. فلم يعد بمقدور الكيان الصهيوني "التمرجل" إلاّ في حدود القدس والضفة الغربية، بل يمكن القول إن استمرار الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية، وحتى استمرار التهويد في القدس والاعتداء على المسجد الأقصى ارتهنا لحماية أجهزة الأمن الفلسطينية، والدور الذي تؤديه سلطة رام الله في قمع المقاومة وكبح الانتفاضة.
إنه لمن المشكوك فيه أن الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية في هذه المرحلة من موازين القوى، ممكن من دون التنسيق الأمني فالعدو الصهيوني أصبح أضعف من أن يستمر في احتلال الضفة الغربية والقدس إذا ما توقف التنسيق الأمني، وخلّت السلطة الفلسطينية (محمود عباس أساساً) بين الجماهير والاحتلال.
إن هذا التقدير للموقف تشارك فيه بصورة غير مباشرة كل من أمريكا وأوروبا، وذلك بدليل ضغوطهما المستمرة على عدم إيصال الوضع إلى حد وقف التنسيق الأمني وانفجار انتفاضة في وجه نتنياهو الذي يعاني من عزلة دولية ومن وضع سياسي مأزوم داخل كيانه، والأهم من حالة جيش هُزِمَ ميدانياً في حرب الـ51 يوماً في قطاع غزة.
هذا البُعد الأخير للوضع في القدس والضفة الغربية، وفي وضع الكيان الصهيوني، يجعل من السكوت ومن الساكتين خطيئة سياسية لا تنفع معها الندامة إذا تمادت أكثر.