من أخطر البيئات على متخذ القرار
الاقتصادي فترات عدم الاستقرار، سواء كان عدم الاستقرار ناتجا عن صعود أم هبوط في أداء المؤشرات الاقتصادية.
والمتابع للحالة
المصرية، يجد أن الاقتصاد المصري يعاني بالفعل من حالة عدم استقرار نتيجة هبوط العديد من المؤشرات الاقتصادية، فضلا عن تداعيات الحالة السياسية المضطربة منذ أكثر من عامين.
وليس المقصود بمتخذ القرار الاقتصادي هنا، صانع السياسة الاقتصادية على المستوى الكلي فقط، ولكن المفهوم يشمل كذلك المستثمر الذي تؤرقه تلك البيئة غير المستقرة، سواء كان هذا المستثمر منتجا أم مصدرا أم مستوردا، فجميعهم تحت رحمة سعر الصرف غير المستقر، ويحمل هم تدبيره، كما يحمل هم ارتفاع التكلفة، وخشية زيادة حدة الركود، كما أنه يشمل المفهوم المدخر، الذي تضيع ثروته ومدخراته مع التضخم، وثبات سعر الفائدة بالبنوك، ما يجعله مضطرا للدولرة، أو الاتجاه للمضاربة في العقارات أو البورصة، أو حتى في سوق الصرف.
وثمة حالة من الترقب يعيشها المجتمع المصري، على الصعيد الاقتصادي، بسبب التداعيات السلبية، وعدم ظهور آثار إيجابية لما وعدت بها حكومات حازم الببلاوي، وإبراهيم محلب، ورئيس الوزراء الحالي مهندس شريف إسماعيل.
فغالبية مشروعات المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ، أعلن عن تأجيلها أو عدم القدرة على تنفيذها بسبب تخلي الشركات العربية التي أعلنت عن تنفيذها بالمؤتمر، كما أن قناة السويس تراجعت إيراداتها في الشهر الأول بعد الإعلان عن مشروع توسعتها، بنحو 9% مقارنة بإراداتها في آب/ أغسطس 2014.
ويمكن رصد فقدان مصر لبوصلة الاستقرار الاقتصادي من خلال الشواهد الآتية:
على صعيد قيمة الجنيه، تواصل العملة المحلية بمصر هبوطها بشكل متسارع، ففي أقل من ثلاثة أشهر فقد الجنيه المصري 4% تقريبا من قيمته أمام الدولار، نتيجة ضغوط فاتورة الواردات، وتناقص موارد مصر من النقد الأجنبي، وكذلك تصاعد أداء وتيرة السوق السوداء، على الرغم من الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي المصري لتحجيم هذه السوق.
وقد أعلن البنك المركزي المصري مزاده الخميس الماضي، ليصل الدولار لأسعار البيع إلى 7.93 للبيع، و7.88 للشراء، وهو ما يعني قفز الدولار عشرة قروش أمام الجنيه في السوق الرسمية، ويخشى من أن يؤثر ذلك على السوق السوداء، لتشهد ارتفعا مماثلا. وأن يؤثر كذلك على قرارات الاستثمار، فحسب تصريحات نائب رئيس جمعيات المستثمرين هناك شكاوى من مستثمرين أجانب تقدر استثماراتهم بنحو 6.4 مليار دولار، يعجزون عن تدبير احتياجاتهم من الدولار لاستكمال مشروعاتهم، وأنهم يفكرون في الانسحاب من السوق المصري.
في الوقت نفسه تتراجع الصادرات السلعية غير النفطية، لتصبح ميزة انخفاض قيمة العملة المحلية كأنها غير موجودة، حيث ما زالت القاعدة الإنتاجية في مصر غير قادرة على التمتع بالمرونة الكافية للاستفادة من انخفاض قيمة العملة المحلية وتحقيق قفزات في الصادرات، وبخاصة في مجال الصناعات التحويلية. فبيانات الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات بمصر، تبين أن هناك تراجعا بلغت نسبته 18.7% في الصادرات السلعية غير النفطية خلال الشهور الثمانية الأولى من عام 2015، مقارنة بنفس الفترة من عام 2014.
ولا تقف دلالة التراجع عند مجرد تناقص الأرقام، ولكن ما يتبع ذلك من دلالات اقتصادية واجتماعية سلبية، فتراجع الصادرات يعني فقدان فرص عمل، والتأثير بشكل سلبي على حركة النقل والشحن وخدمات التأمين وغير ذلك من مجالات ترتبط بشكل مباشر وغير مباشر بحركة الصادرات، وبالطبع فقدان مصر لجزء من الموارد الدولارية في وقت شديد الحساسية.
يذكر أن ما فقدته مصر نتيجة تراجع صادراتها السلعية فقط خلال ثمانية أشهر 2.8 مليار دولار.
ولا تدل الجوانب المختلفة للمشهد الاقتصادي لمصر على وجود سقف لانهيار تلك المؤشرات، فتحذير وزير التجارة والصناعة السابق منير فخري عبدالنور لنظيره الذي حل محله في حكومة شريف إسماعيل، له دلالاته، من رجل لا يناصب النظام الحالي أية عداءات سياسية، وفي الوقت نفسه هو يعبر عن حس رجل أعمال، حيث حذر عبدالنور وزير التجارة والصناعة الحالي من الوعد بزيادة الصادرات، مرددا "مش هيحصل".
وعلى ما يبدو فإن شهية الحكومة المصرية تجاه الاقتراض من الخارج، ترتفع بمعدلات عالية، بعد أن وصل الدين الخارجي لنحو 48 مليار دولار، فثمة تسابق بين المسؤولين المصريين للإعلان عن التوجه للاقتراض من الخارج، فرئيس الوزراء صرح بأن حكومته تنوي الحصول على قرض بنحو 1.5 مليار دولار من البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية قبل نهاية عام 2015، بينما وزير المالية هاني قدري يعلن أن مصر تنتظر رد البنك الدولي بالموافقة على قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار، لتنفيذ إصلاحات اقتصادية بالموازنة، على أن تحصل مصر على هذا القرض على مدار ثلاث سنوات، بواقع مليار كل سنة.
استشراف المستقبل
يتعايش الشركاء الاقتصاديون مع واقعهم، وهم يعلمون أن المشكلات يمكن حلها، والبعض ينجح من خلال وجود مشكلات، ويعتبر أن كل مشكلة تتيح فرصة، ولذلك فإنه يحاول البعض استغلال تلك الفرص.
ولكن ذلك في ظل الأجواء الطبيعية، التي تجد تعاونا بين الحكومة ومجتمع الأعمال والمجتمع المدني، وهذه الرابطة يفتقدها الاقتصاد المصري بشكل كبير، ففي الوقت الذي حذر فيها الكثير من رجال الأعمال من السياسيات التي يتبعها محافظ البنك المركزي، فقد لقي هذا المحافظ سندا من الحكومة، ولم يعبؤوا بشكاوى رجال الأعمال، وكانت النتيجة تراجع الصادرات، وزيادة الركود، وارتفاع معدلات البطالة والتضخم.
إن التوصيف الصحيح لواقع الاقتصاد المصري، بعيدا عن أي مزايدة سياسية أنه وصل لمرحلة المعضلة الاقتصادية، فكلما ذهبت لمعالجة مشكلة ارتدت بآثارها السلبية على قطاعات أخرى، فضلا عن أن الإدارة الاقتصادية لم تعمل في أي وقت بروح الفريق، أو وجود تنسيق بين مكونات السياسات الاقتصادية.
فهل يعقل أن تتم معالجة المشكلات الاقتصادية المركبة للموازنة العامة بمصر من خلال مجموعة من البرامج الاقتصادية الممولة من البنك الدولي، بنحو مليار دولار سنويا وعلى مدار ثلاث سنوات؟
وهل سيستمر علاج نزيف الدين العام، من خلال المزيد من الاقتراض الداخلي والخارجي، دون وجود برنامج حقيقي لمعالجة قضية الدين يستهدف تخفيضه، والقضاء على أسباب تزايده بمعدلات لا يمكن قبولها أو مقارنتها بمؤشرات اقتصادية مقبولة؟
إن انتظار الدعم الإقليمي أو الدولي لاستهلاكه في أمور وقتية، دون التركيز على أزمة مصر الحقيقية، وهي قدرتها الإنتاجية الهزيلة، والتي تتراجع يوميا، كله بسبب نظرة الحكومة قصيرة الأجل، والتركيز على بعض المصادر الريعية ونشاط الخدمات غير الإنتاجية.
إن نظرة البعض لمصر على مجرد أنها كتلة سكانية كبيرة، وأنها سوق واسعة، ينقصها أن هؤلاء السكان لا يملكون قدرات مالية تمكنهم من الاستهلاك الضروري والممكن، وأن زيادة عدد الأسر التي يعولها المهاجرون بالخارج، مؤشر محفوف بالمخاطر في ظل الظروف الإقليمية غير المستقرة، والتي من الممكن في المستقبل القريب أن تتحول إلى كارثة بسبب عودة هؤلاء المهاجرين، والذين يتركز غالبيتهم في منطقة الخليج.
يتوقع أن تشهد تقويمات مصر خلال الفترة القادمة تقديرات شديدة السلبية من مؤسسات التصنيف الائتماني، وستكون مصر مضطرة خلال فترة قصيرة لتوقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي والحصول على قرض، يفتح لها باب الاقتراض من الخارج، لتغطية الفجوة التمويلية، ويكون التحدي، هو الخروج من دوامة المعضلة الاقتصادية وسداد الديون الخارجية، التي يتوقع لها أن تكون قضية الشهور القادمة.