قضايا وآراء

المثلث التونسي الكادح

1300x600
كلما ابتعدت عن العاصمة التونسية ووليت شطرك نحو جنبات البلاد المترامية تتمايز لديك التفاصيل. تبتعد سياسات المركز لتحل ثقافة الهامش. فثمة تقسيمة مقصودة أو غير مقصودة بين مدن سياحية خلابة كسوسة في الشمال أو جزيرة جربة في الجنوب وبين المثلث الغربي الأوسط الكادح والذي انطلقت منه شرارة الثورة في سيدي بوزيد.

مثلث يشكو من التهميش على مدار التاريخ وتحمل ملامح أبنائه تضاريس وعرة تحكي تاريخا غير مدون عن قصة معاناة الإنسان في هذا المكان رغم أنه كنز أخضر يمد العاصمة والعالم بأجود أنواع الزيتون وزيته وتمور دجلة نور الفاخرة.

ضمن هذا المثلث تقع مدينة تالة. تلك التي ظلمها الإعلام رغم دورها الرائد في ثورة الياسمين. فقد كانت من أوائل الأماكن التي كسرت شوكة قوات أمن بن علي وهم يهتفون: خبز وماء وبن علي لا. لم تنقطع أخبار تالة ومطالبات أهلها المستمرة ببناء مصنع وتشغيل شبابها العاطل عن العمل والذي سقط منه العديد من الشهداء في الثورة التونسية. لكن أخبارها كانت كموقعها، في الهامش دائما، حتى أصبحت هذه المطالب في صدارة عناوين الأخبار أخيرا.

كغيرها من المدن التونسية المختلفة، تكسو الخضرة معظم أرجاء تالة وما حولها لتثبت أن تونس كلها تستحق لقب تونس الخضراء بجدارة. وهي خضرة لا تشوهها أية مظاهر للقمامة أو عدم النظافة حتى في الأماكن التي تعاني من الفقر والتهميش مثل تالة. والنظافة هنا ثقافة قبل أن تكون سلوكا، إذ يذهب التونسيون كل أسبوع لأحد حمامات البخار المنتشرة في كل الأحياء ليخضع كل منهم لعملية نظافة خاصة على أيدي تخصصيين بصابون زيت الزيتون التونسي الشهير في تناغم عبقري بين الأرض والإنسان.

وحين تتجاوز هذه المدينة المتاخمة للحدود الجزائرية نحو الجبال المحيطة تجد أنك وسط قرية جبلية تحمل اسم بن غذاهم. في هذه القرية يضطر أطفالها أن يسيروا مسافة خمسة كيلومترات ذهابا إلى المدرسة الوحيدة في المنطقة ومثلها في الإياب كل يوم. البيوت طينية مع بعض الأحجار وكأنها لا تعيش في هذا العالم. هذه القرية هي موطن علي بن محمد بن غذاهم الذي قاد ثورة عام 1864 وسميت باسمه، وقد اندلعت بسبب زيادة الضرائب التي قسمت ظهر الشعب وكانت أحد مظاهر الفساد المستشري حين كانت تونس جزءا من السلطنة العثمانية آنذاك. وشارك في الثورة قبائل ماجر وبو غانم و لفراشيش التي امتنعت كلها عن دفع الضرائب. وكما حدث في ثورة الياسمين، لم يكن هذا سوى الشرارة الأولى لثورة بن غذاهم، فما لبثت أن امتدت إلى باقي التراب التونسي.

بعد عدة شهور تمكنت القوات الأمنية التابعة للباي (لقب حاكم البلاد وقتها) من القضاء على هذه الثورة. ولا تزال شخصية علي بن غذاهم أسطورة بها كثير من الغموض، حتى إن مكان دفنه غير معروف بعد أن تم القبض عليه وسجنه في منطقة حلق الوادي. إذ يقول من تبقى من عائلته إن الباي أعطاه الأمان ليسلم نفسه إليه وقد فعل، إلا أن الباي حنث بوعده وقتله. ويعزو المؤرخون فشل الثورة في ذلك الحين وقتها لعدة أسباب. لعل أهمها تفرق الثوار وعدم وحدة القبائل بالإضافة لما قيل عن دعم الدول الأوروبية لسلطة الباي لإخماد هذه الثورة.

تزامن اندلاع هذه الثورة مع عهد الأمان الذي أصدره الباي محمد الصادق لتحقيق المساواة أمام المواطنين أمام القانون كأول دستور عربي صدر عام 1861 بالإضافة لمشروعات السكك الحديدية والبرق والموانئ التي قامت بها شركات فرنسية وإنجليزية. لكن قشرة التحديث والإصلاحات هذه كانت تخفي تحتها مظالم اجتماعية أدت لمثل هذه الثورة التي ربما كان فشلها ناقوس خطر لما سيؤول إليه حال البلاد. فقد تحقق فيها قول عالم الاجتماع التونسي الشهير عبد الرحمن بن خلدون الطغاة يجلبون الغزاة. وما هي إلى عدة سنوات واحتلت فرنسا تونس.

ومنذ ذلك الحين، أي ما يربو على قرن ونصف القرن من الزمان، وهذا الهامش التونسي يحاول أن يجد ما يسد رمقه ولم يجد. قدره أن يشعل الثورات فيستفيد مركز البلاد في الساحل وما حوله ويبقى هو مهمشا. وهي معادلة مؤسفة لا تنكرها الحكومة التونسية أو المعارضة ويتذرع الجميع بعنصر الوقت المطلوب لتحقيق المطالب البسيطة هذه البقعة.

هذه مجرد زاوية لنفهم ملامح الغضب التونسي الحالي. فهو غضب قادم من خارج السياقات المألوفة في الإعلام عن الوضع التونسي. سياقات تدور معظمها في فلك الإسلاميين والنهضة والحكومة والخارج مع إهمال واضح لمنبت الثورة ومنبعها وأسبابها. لا يزعم أحد أن لديه رؤية واضحة لما يحدث أو ما قد تؤول إليه الأمور ولا من قد يستغل مثل هذه الأحداث. لكنها خلفية لابد منها لفهم دوافع ما يجري.