كانت دعاية "الجيش حمى
الثورة"، والتواطؤ معها بالصمت من كثيرين يعلمون أن الأمر بخلاف هذا، بمنزلة الباب الذي دخل منه الشيطان!
فتحت تأثير هذه الدعاية أو بالقبول بتمريرها، قبلت ثورة يناير بالدنية في أمرها؛ وبقرار مبارك بالتنحي وتسليم الحكم لرجاله أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة!
وكانت كذلك سببا في أن "الحاكم العسكري" المشير محمد حسين طنطاوي، قام بالمد في فترة حكمه، إلى قرابة العام والنصف عام، وكان يطمع أن يزيد، لولا أنه اضطر لإجراء الانتخابات الرئاسية بقوة الدفع الثوري، وعدم توقف الثوار عن الهتاف بسقوط
حكم العسكر، بعد أن ذهبت السكرة وحلت الفكرة. ومعلوم أن المرحلة الانتقالية كان قد تم تحديدها بستة أشهر فقط لا غير!
دعاية "الجيش حمى الثورة"، هي التي منحت الشرعية لقيام أصحاب الائتلافات التي وصفتها مبكرا، بائتلافات الوجاهة الاجتماعية، بخيانة الثورة والهرولة إلى خصومها والمباهاة بالصور التي تلتقط لهم مع مدير المخابرات الحربية اللواء عبد الفتاح السيسي، الذي جاء ليخلي "ميدان التحرير" من الثوار، ليحل محلهم أنصار مبارك، في يوم موقعة الجمل!
وهي الدعاية التي كانت سببا في الاحتفاء باختيار العسكر لعضو لجنة السياسات بالحزب الوطني "المنحل" عصام شرف رئيسا للحكومة، وإدخال الغش والتدليس على الرأي العام بترديد أنه رئيس الوزراء القادم من ميدان التحرير.
وقد أعطت دعاية "الجيش الذي حمى الثورة"، المبرر لثوار الغبراء في 30 يونيو ليطالبوا بتدخل الجيش، ويمثلوا غطاء ثوريا للثورة المضادة، ومنحت قادة الجيش المعينون من مبارك الحق في الانقلاب على الرئيس المنتخب بحجة أنهم من حموا الثورة، ومن حق وزير الدفاع بالتالي أن يصبح رئيسا، لنكون أمام وضع مضحك، عندما تحرم الثورة من الحكم ويحكم من تم الادعاء بأنه حماها!
في مقالات سابقة، ذكرنا أن قرار نزول الجيش للشارع في يوم جمعة الغضب، لم يكن لحماية الثوار من اعتداء الشرطة، ولكن كان لتقديم "المؤن والذخيرة" لها، لأن صاحب قرار نزولها كان هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي هو مبارك بشحمه ولحمه!
وذكرنا كيف أن الخيل والبغال والحمير التي جاءت من نهاية شارع الهرم لقرابة العشرة كيلو متر سيرا، في يوم موقعة الجمل، كان الظاهر أمام الجميع أنها قدمت في حضور قوات الجيش المرابطة في الشوارع، فهل تم هذا دون تنسيق مسبق؟!
هذا فضلا عن أن المدرعات التي كانت ترابط أمام مداخل الميدان الثمانية، قد تحركت لتفسح المجال لدخول هؤلاء الذين سبق قدومهم حضور عبد الفتاح السيسي نفسه، ليطلب إخلاء الميدان من الثوار ليمارس أنصار مبارك الحق في تأييده، وعندما تم رفض طلبه هدد وتوعد، وجاءت الخيل لتنفذ تهديده!
عند دحر "الخيالة"، لم ينته الموقف في هذا اليوم، فالشبيحة ظلوا يومين متتاليين يحاولون الإغارة على الميدان، وهم يحملون الأسلحة البيضاء، ويعملون تحت غطاء جوي من القناصة، وبحسب اتجاه الرصاص، فقد تم تحديد موقعهم، فهم إما أنهم يقفون أعلى فندق "رمسيس هيلتون"، أو فوق عمارة "دوحة ماسبيرو" المجاورة له، وفي المساء شاهدت أكثر من ألف مصاب بالقنص وفي منطقة واحدة؛ أعلى الجبهة!
وتم الاكتفاء بما أعلنته وزارة الداخلية بأنها لم تمتلك قناصة، لكننا بعد ذلك وفي أحداث شارع محمد محمود شاهدنا ضابطا قناصا بالصوت والصورة، وقد مارس مهنته ضد الثوار على أكمل وجه!
ومهما يكن فلم يتحرك أي جهاز يتبع الدولة للوقوف على من يتولى عملية القنص، بل لم يتم إلقاء القبض على البلطجية الذين نقلت قناة "الجزيرة" على الهواء مباشرة وجودهم، وعندما نفى رئيس الوزراء الفريق أحمد شفيق علم الحكومة بالموضوع، قلت في إحدى المداخلات التلفزيونية، "قالوا الجمل صعد النخلة فقلنا هذا هو الجمل وهذه هي النخلة"، فالشبيحة يتمركزون بكثافة فوق كوبري قصر النيل، عليه أن يرسل قوات الجيش لتلقي القبض عليهم إن كانت وزارة الداخلية عاجزة عن ذلك، لنعرف من وراءهم إن كانت الحكومة ليست على دراية بالموقف!
لقد تبدى الضلوع في مؤامرة موقعة الجمل، بشكل وقف عليه الجميع، والمضحك باعتبار أن شر البلية ما يضحك، أن الثوار في اليوم الأول للموقعة، ولأنهم كانوا حسني النية إلى أقصى درجة، فقد قاموا بتسليم الخيول التي استولوا عليها من الغزاة الذين تم دحرهم لقوات الجيش المرابطة أمام المداخل، التي قامت بدورها بتسليمها لأصحابها، إلا حصانا واحدا بحسب مصادرنا. كما قام الثوار بتسليم البلطجية الذين تم إلقاء القبض عليهم بعد اقتحام الميدان، لقوات الجيش أيضا، وعددهم (220) بلطجيا، وفي اليوم التالي كانوا أحرارا ويحاولون الإغارة مرة أخرى على الميدان، وعدم اتخاذ الإجراءات القانونية حيالهم كان من أسباب براءة المتهمين بالتحريض على هذه الموقعة، من قيادات الحزب الوطني ورجال أعمال ونحو ذلك. فإذا كانوا هم من حرضوا فإن الجريمة لم تكتمل إلا بالوصول إلى من تم تحريضهم، الذين أطلق الجيش سراح المقبوض عليهم ممن يمثلون أداة الجريمة!
لقد كانت الصورة واضحة عن حجم المؤامرة على الثورة، وأن قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة كانوا عند حسن ظن من عينهم في مواقعهم وهو حسني مبارك، وإذا كانوا قد وقفوا الموقف التقليدي، الذي يتمثل في دفاع الجيش عن شرعية الحكم، فإن النقل الحي لعملية السماح بدخول الغزاة، أوصلت رسالة بدور القادة في التواطؤ ضد الثورة إلى من يهمه الأمر، وفي المساء كانت هناك رسالة للقادة لا تخطئ العين دلالتها!
لقد بدا واضحا أن ما جرى أرق وجدان بعض شباب الضباط كأفراد، فراعني في هذه الليلة سماح "حراس المداخل" من شباب الثورة، وكانوا في مجملهم من الإخوان المسلمين، لسيارات ملاكي، وعلى غير العادة لدخول "ميدان التحرير"، ولأن من "لسعته الشوربة ينفخ في الزبادي"، فقد فوجئت بهذا في البداية، وأذكر أنني أوقفت إحدى السيارات، وكان يقودها شاب بملابس مدنية، وتجلس بجواره فتاة عرفت منه أنها خطيبته، وقد عرفني بنفسه بأنه ضابط، ربما كان رائدا أو نقيبا، لا أتذكر، وقد أخرج "هويته" التي لم أطلع عليها، وقد جاء وغيره بأطعمة ودواء في ليلة كان الميدان فيها محاصرا بالبلطجية بشكل مرعب، وهو ما شاهدته بنفسي وأنا أتحرك وسطهم، سواء وأنا أقوم مع زملاء بشراء الأطعمة والمشروبات من المحلات القليلة المفتوحة في ساعة حظر التجول، أو في الوصول والعودة لبناية "دوحة ماسبيرو" التي تقع فيها مكاتب بعض الفضائيات العربية، وكنت أعتبر أن هذه المخاطرة، ولإسماع صوتنا للعالم عبر أكثر من منبر، هي "حيلة العاجز"، بعد أن فاز الشباب بشرف الدفاع عن الميدان، ولم يكن من بين المدافعين والمصابين في هذا اليوم، أي من الذين شكلوا ائتلافات الوجاهة الاجتماعية، الذين تعاملوا على أنهم أصحاب الثورة والمتحدثون باسمها، الذين استغلهم "الطرف الثالث"، في استكمال مسيرته بتشويه ثورة لم يستطع أن يجهضها!
لقد قالوا في دعايتهم إن الجيش حمى الثورة، فماذا كان سيفعل لو خانها؟!