كثيرة هي الأسماء التي أُطلقت مؤخرا على الاعتصام الذي شنته النقابات الأمنية في ساحة القصبة
التونسية مقر رئاسة الحكومة باعتبارها مركزا من مراكز السيادة الوطنية حيث وُصفت العملية بأنها انقلاب على الشرعية وتمرّد خطير جدا على الدولة. من "غزوة القصبة" إلى "تمرد النقابات" إلى "انقلاب الأمنيين" إلى "عودة دولة البوليس" وصولا إلى "جريمة بوليس بن علي"... هي التسميات التي أطلقتها الفضاءات التواصلية التونسية في تفاعل نادر مع الحدث الأخطر اليوم في واقع البلد الذي يشق طريقه بصعوبة في محيط إقليمي ودولي عاصف عنوانه الأبرز الإرهاب ولا شيء غير الإرهاب.
اليوم تُشيطَن النقابات الأمنية على كل المنابر تقريبا وعلى رأسها منابر "إعلام العار الوطني" ـ بتعبير الشباب التونسي على مواقع التواصل الاجتماعي ـ والتابعة دائما لرجال الدولة العميقة الساهرين على استعادة منظومة القمع عبر أعمدة دخان الفوضى المتصاعدة محليا ودوليا. الإجماع على شيطنة التحركات الأمنية التابعة أساسا " للنقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي " يبعث على الريبة والحذر لأن الاتهامات جاءت مفاجِئة من طرف أذرع نقابية أخرى مشهود لها بالعربدة على الساحة الإعلامية وصولا إلى تهديد الشعب التونسي بالسلاح من أعلى منابر " الإعلام النوفمبري " التونسي. فكيف يضرب الأمنيُّ الأمنيَّ؟ ولماذا؟
النقابات الأمنية التونسية ثلاثة أهمها "النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي" وهي تضم أكثر من خمسين ألف منخرط وتغطي أكثر من نصف النقابيين الأمنين في تونس ثم نجد نقابتين أقل حجما وعددا ووظيفة وهما "نقابة وحدات التدخل" و"اتحاد نقابات الأمن التونسي".
لقد مثّل المكسب النقابي لقوى الأمن التونسي حدثا جليلا بعد الثورة لأنه كان فرصة نادرة لينعتق الأمن من الهيمنة السياسية لنظام "بن علي" وليتحرر من عقدة الذنب التي تربطه بالمواطن التونسي حيث كان رجل الأمن في أغلب الحالات عنوانا للتسلط والإهانة والرشوة والابتزاز والتحيل وحتى التعذيب والتآمر. لكن الفوضى التي سادت المرحلة الانتقالية إضافة إلى متاجرة الأحزاب السياسية بالقوى الأمنية وارتباط القيادات القديمة بقوى خارجية وبرجال النظام القديم منعت حكماء المؤسسة وعقلاءها من إنقاذ المنزل وساكنيه.
الصراع اليوم على أشده بين قوتين نقابيتين أساسيتين تسعى الأولى إلى إنتاج منوال أمني جديد بشعارات وطنية وسقف جمهوري في حدّه الممكن في حين تسعى الثانية إلى منع الأولى من بلوغ هدفها وإرجاعها إلى حضيرة القمع عبر اختراقها وتوجيهها والركوب على مطالبها وشيطنة استحقاقاتها.
تاريخيا نجح نظام "بن علي" في فصل رجل الأمن عن محيطه الاجتماعي بأن صوّر له المواطنَ كائنا مرَضيا أو إجراميا بل وإرهابيا في كثير من الأحيان فاستفاد من الوضعيات الاجتماعية الصعبة للشباب التونسي الذي انخرط بكثرة في سلك الأمن بحثا عن عمل قار وعن فرصة للرقي الاجتماعي والخروج من التهميش والبطالة. كان الفصل بين المدنيّ والأمنيّ مبدأ مركزيا في فكر الاستبداد السياسي والممارسة اليومية لنظام "بن علي" القمعي بتخطيط خارجي دائما لأنه ككل أنظمة العصابات يقوم على "مبدأ فرّق تسد" بين المواطن ورجل الأمن.
براتب بائس وتعيس كان الأمني القاعدي معرضا لإغراءات المال والنفوذ التي كانت استراتيجية النظام الدقيقة لتوريطه في الفساد من أجل الدفع به دفعا داخل منظومة القمع والتسلط التي لا فكاك له منها أما المدراء وكبار الضباط فكانت رواتبهم مغرية وكانوا يتمتعون بكل الحوافز الاجتماعية من أجل التمكين لدولة البوليس الهرمية التي تاجرت بمصير البوليس نفسه والتي يَسحق فيها أعلى الهرم قواعده العريضة.
هكذا وجد الأمنيون أنفسهم في فوهة البركان بعد هروب رئيس العصابة وكان الخوف من انتقام الشعب التونسي عن سنوات القمع والتنكيل هاجس كل الأمنيين غداة الثورة لكن الشعب التونسي كان أكثر نزوعا إلى السلمية وكان يميز في لا وعيه الاجتماعي بين الرأس المدبر وبين الأداة التنفيذية.
هكذا كان الأمل كبيرا في تحييد المؤسسة الأمنية التي كانت يدَ بن علي الضاربة إبان سنوات الرصاص حيث كانت وزارة الداخلية مرادفا لزنزانات القمع والتعذيب والتنكيل. لكن المؤشرات الأولى عن صمود النواة الصلبة لدولة البوليس جاءت سريعة عبر الهجوم المسلح على وزير الداخلية الأكثر كفاءة في تاريخ تونس السيد "فرحات الراجحي" في مقر وزارة الخارجية نفسها ومهاجمة منزل الوزير السابق السيد "لطفي بن جدّو" وقمع الأصوات الوطنية داخل المنزل الأمني مثل الضابط "سمير الفرياني" وليست الشهادة الخطيرة للقاضي " أحمد الرحموني" عن عودة التعذيب إلى مراكز الإيقاف إلا مؤشرا خطيرا عن عودة النسق القديم إلى العمل.
اليوم يتم توجيه المطالب المشروعة "للنقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي" إلى غير وجهتها وهي المطالب التي تسعى إلى تمكين الأمني القاعدي من مِنَحه المستحَقة ممثلة في "منحة المشقة" و"منحة الخطر" التي تتمتع بها مكونات عمالية أخرى في تونس. يتم ذلك التوجيه عبر الدفع بالقوى النقابية إلى التصادم مع مراكز السيادة مستغلين حالة الاحتقان الكبيرة لدى كثير من الأمنيين وهو خطأ نقابي جسيم أسقط المطالب المشروعة في فخ سوء التعبير عنها وسوء المطالبة بها خاصة وأن الرأي العام التونسي لا يزال يتوجس كثيرا من المركّب الأمني في السياق ما بعد الثوري.
القوى النقابية الأخرى كانت أوّل من أدان شكل الاحتجاج النقابي لزملائهم -لا محتواه- عبر وسائل الإعلام وبشكل يبعث على الريبة؛ لأنه يتعارض مع هدفين من أهداف النقابات الأمنية المسيّسة الأخرى وهما استهداف النقابة الوطنية الأكثر تمثيلية وتوريطها إعلاميا ووطنيا ثم الطعن في مطالبها.
هذا الطعن في المطلب النقابي يفسّر بأنها نقابة تخدم الأمنيّ القاعدي ولا تخدم شبكة المدراء والمسؤولين الكبار الذين يتحكمون في مفاصل الدولة العميقة خاصة من رجال بن علي العائدين بقوة إلى المفاصل المؤسسة.
منظومة القمع تعود اليوم بقوة داخل المؤسسة الأمنية التونسية نفسها حيث استأنفت سياسة تكميم الأصوات الحرة انطلاقا من "الإدارة العامة للأمن الوطني" بواسطة النُّقل التعسفية والإخضاع للتحقيق والإهانات المستمرة للقوى الأمنية الداعية لاستقلال المؤسسة الوطنية عن سلطة الثالوث الملوِّث مكوّنا من الأحزاب السياسية ومن المال الفاسد ومن تدخل السفارات الأجنبية.
مطالب "النقابة الوطنية" مطالبُ مشروعة لكن خطأ فادحا في التعبير عنها شوّهها وسمح لأعدائها بالانقضاض عليها لأن تلبية مطالب الأمنيّ الاجتماعية إنما هي تحصين له ضد الفساد وضد كل مغريات السلطة وهي الوحيدة الكفيلة بضمان نشأة أمن جمهوري يعمل خارج سلطة الأحزاب وخارج منظومة الاستبداد ودوائر الفساد.
لا سلمَ اجتماعيا دون أمن جمهوري وطنيّ ومستقل ولا ديمقراطية دون تكريس العدالة الاجتماعية التي تشمل الأمنيين بما هم جزء لا ينفصل عن النسيج الاجتماعي لكنّ المتاجرة بهمومهم أو الدفع بهم إلى الصدام مع المؤسسات إنما هو استنساخ لجريمة "بن علي" في حق الأمنيين والوطن ودفع بهم نحو مغامرات لن يدفع ثمنها غيرهم بما هم نتاج الطبقة الاجتماعية والمناطق الأكثر تهميشا في المجتمع والدولة.