أعلن وزير الشؤون الدينية في
تونس عبد الجليل بن سالم في تصريح إعلامي أن خمسة بالمئة ممن يعتلون منابر المساجد أساتذة، وأنّ البقية "لا علاقة لهم بالاختصاص ولا يملكون ثقافة علمية دينية تؤهلهم ليكونوا خطباء". وأضاف أنّ هذا الفراغ "أدى إلى أزمة حقيقية تسبّبت في تفشي خطاب تكفيري متطرف وفي عزوف الأئمة والمصلين عن المساجد". واعترف في هذا السياق بأنّ تونس "تواجه تحديا كبيرا وهو كيفية إرساء خطاب ديني تنويري معتدل له صبغة تونسية". وكشف أنّ الوزارة بصدد العمل على تكوين أئمة ووعاظ جدد.
ليس هذا أول وزير للشؤون الدينية ينتقد المستوى العلمي والبيداغوجي لخطباء المساجد، حيث سبق لوزراء آخرين تحملوا نفس الحقيبة أن عبروا عن نفس المعنى وإن بصيغ مختلفة. وهو ما يؤكد وجود مشكلة حقيقية يعاني منها الفضاء الديني في تونس منذ فترة طويلة، وما تمت معاينته اليوم ليس سوى نتيجة لتراكمات بدأت منذ وقت مبكر.
كان جامع الزيتونة بمدارسه المختلفة يعاني منذ وقت مبكر من ضعف شديد في البرامج والمناهج، وهو ما دفع بطلبتها قبل قرار إغلاقها من قبل الرئيس بورقيبة بعد استقلال البلاد مباشرة، إلى القيام بعديد الإضرابات والاعتصامات من أجل المطالبة بإصلاح التعليم الزيتوني وتحديثه وتعصير أساليب التدريس.
أما في عهد الرئيس بن علي الذي قرر تحويل كلية الزيتونة إلى جامعة، فعدل ذلك بدافع سياسي حتى يكسب قدرا من الشعبية، ويظهر أمام الرأي العام أن موقفه من الإسلام مختلف عن موقف بورقيبة، حين رفع شعار "تحقيق المصالحة بين الدين والدولة". أما على مستوى الواقع فقد عمد بن علي إلى تعزيز وصاية الدولة على الفضاء الديني حتى يقطع الطريق أمام الإسلاميين. وبسبب ذلك تم إخضاع أئمة المساجد تحت رقابة الأمن السياسي، وهو ما زاد الطين بلة، وعمق حالة الفقر الديني في البلاد.
بعد الثورة اكتشفت النخب أن إهمال الفضاء الديني من قبل الجميع، سياسيين ومثقفين وأمنيين، قد ولد مضاعفات خطيرة على مختلف المستويات. لقد فقد الخطاب الديني الرسمي سلطته ومصداقيته، ولم يعد مسموعا أو محترما من قبل المتدينين وغيرهم. ثم ظهر السلفيون بمختلف أجنحتهم وخاصة التكفيريون منهم، الذين استفادوا من بؤس الخطاب الديني، وتمكنوا في البداية من الهيمنة على عشرات المنابر والمساجد التي حولوها إلى مواقع للتعبئة الأيديولوجية وحتى العسكرية أحيانا. ولما أصبحت هذه الظاهرة تهدد الأمن القومي، وتعمل على تقويض الدولة من أجل فرض نمط مجتمعي مغاير للأسس التي قام عليها الاجتماع التونسي، انطلقت حملة واسعة النطاق، وهي حملة لا تزال متواصلة حتى اليوم في سبيل تحرير المساجد، وفرض سلطة الدولة عليها، وإبعاد الأئمة الموصوفين بالغلو والتشدد.
مع ذلك لا تزال المشكلة قائمة برمتها، لأنه في غياب بدائل واضحة وعملية ومقنعة، فإن الفضاء الديني سيبقى يتأرجح بين الفراغ المخيف وبين الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي. ويعود ذلك إلى ضعف الجهود المبذولة من أجل بناء جيل جديد من الأئمة والوعاظ الذين تتوفر لديهم القدرة على توجيه المؤمنين وتعليمهم وتزويدهم بثقافة إسلامية صحيحة تساعدهم على فهم العالم وفهم التاريخ، وتعمق لديهم قيم الخير والجمال والعمل والاجتهاد، كما تجنبهم الوقوع في الغلو والعنف. جيل يكون قادرا على التصدي بقوة وبإقناع لخطاب الكراهية مستبدلا إياه بثقافة تبني الثقة بين أبناء الشعب الواحد، وترتقي بالمسلم إلى مستوى الانفتاح على الإنسانية بتنوعها ومكاسبها وطموحاتها.
لا توجد مدرسة أو مؤسسة علمية في تونس تعمل على تجديد النسيج الديني، وتكون الغاية منها تشبيب المكلفين بالتوجيه الأخلاقي والإيماني للتونسيين. وقد سبق أن تعرضت البلاد التونسية لموجة ممن يلقبون بـ"الدعاة الجدد" الذي افترضوا أن الشعب التونسي قد ضل الطريق، وأنهم الأولى بإعادة أسلمته من جديد وأن يكونوا هم " المرجعية الشرعية "التي يجب الاستلام لها وتلقي " الإسلام الصافي" منهم وعنهم. وقد أربك هؤلاء أوضاع البلاد، وخلفوا وراءهم ألغاما عقائدية ومعرفية لا تزال المساعي متواصلة من أجل تفكيكها وتعطيل فاعليتها.
لا شك في أن ما صرح به وزير الشؤون الدينية الجديد سيثير غضب الأئمة والوعاظ الماسكين حاليا بدفة التوجيه والإرشاد، لكن الأهم من ذلك أن بلدا مثل تونس الذي له باع طويل في مجال تدريس العلوم الإسلامية عندما كانت الزيتونة تشكل سلطة معرفية قوية وشعبية، يجد نفسه اليوم يبحث وبصعوبة شديدة عمن يتمتع بالحد الأدنى من الثقافة الدينية الجدية البعيدة عن الإسقاط السياسي أو التوظيف الحزبي.
إذا كانت تونس تعاني اليوم من قلة الموارد المالية والاقتصادية للخروج من مأزق غياب التنمية، فإنها أيضا تعاني وبحدة أقوى الأمية الدينية وقلة الوعي النقدي الذي من شأنه أن يزيد من قابلية الشباب التونسي للخطاب الداعشي المبشر بالاحتراب الداخلي وتوسيع جبهات القتال مع كل العالم.