تلجأ النظم المستبدة في العالم الثالث إلى سوائر قانونية لأعمالها غير القانونية، متجاهلة تماما فلسفة الحصانة التي تتمتع بها أعمالها، ذلك أن أعمال السيادة والحصانة من رقابة القضاء ونطاق الشؤون الداخلية؛ في مواجهة الطابع الدولي للأعمال الداخلية، هي الذرائع الثلاث التي يتستر بها المستبدون في العالم الثالث، حتى يفلتوا بجرائمهم، وإيهام شعوبهم بأنهم أغطية قانونية معترف بها في الدول الديمقراطية. فاستخدام هذه المصطلحات في النظم الديمقراطية؛ يكون لها سياق واحد، وهو أن الدولة قانونية وسيادة القانون فوق الجميع، ثم أنها تقررت للصالح العالم وليس للإفلات من الرقابة القضائية، وارتكاب جرائم الخيانة للوطن وللمنصب.
وقد أتيح لمحكمة اللوردات في عام 2006 أن تستظهر هذه المعاني في قضية شهيرة؛ اتهم فيا ديكتاتور تشيلي السابق، الجزال بينوشيه، بارتكاب جرائم ضد شعبه وضد أجانب، فدفع بينوشيه بأنه عضو في مجلس الشيوخ في تشيلي، وأنه يتمتع بالحصانة ولا سلطان للقضاء البريطاني عليه، كما دفع بأن جرائمه ارتكبها وهو في حماية الدستور ورئيس للدولة؛ بصفتها من أعمال السيادة، فقررت المحكمة أن الحصانة للرئيس هي لكي يمارس السيادة لتحقيق مصالح الدولة والشعب، ولا تكون الحصانة وأعمال السيادة ذريعة وغطاء لارتكاب الجرائم، بل شددت المحكمة على أن رئيس الدولة الذي يرتكب الجرائم ضد شعبه باسم الحصانة ومنطق الدولة ويحتمي بأعمال السيادة؛ يكون عقابه مضاعفا لأنه في وضع الحامي للشعب وليس القاتل له، وأن الإفلات من القضاء باسم أعمال السيادة هو إفلات من العدالة، وهي جريمة أخرى ثالثة. كما أكدت المحكمة البريطانية أن حصانة بينوشيه بصفته عضوا في مجلس الشيوخ كانت ثمن الاتفاق بين الديكتاتور العسكري والحكم الديمقراطي، ولا تسري إلا في داخل تشيلي، بل إن هذا الاتفاق موضوعه باطل، وهو الإفلات من العقاب على جرائم الجنرال الذي حرّكته المخابرات الأمريكية للانقلاب العسكري على الرئيس الديمقراطي الشيوعي بلفادور الليندي عام 1973، وظل حاكما حتى عام 1990، بعد أن رقّاه الليندي قائدا عاما للجيش بعشرين يوما (23/8 إلى 11/9/1973) وقبض عليه في لندن في 10/12/1998 ليحاكم على انتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة، وأطلق سراحه لظروف صحية، لكنه حوكم في تشيلي، وحتى وفاته في 10/12/2006 كانت التهم المعلقة حوالي 300 اتهام.
أولا: أعمال السيادة في مصر:
وفي قضية الجزيرتين يدور في مصر جدل حول أعمال السيادة، فقد عمدت حكومات العصر الجمهوري إلى إغفال القانون وتأميم القضاء، وإشاعة أن السلطة، أي الفرع التنفيذي، وهو الحكومة، هي الأدرى بمصلحة الوطن، وأن الشعب قاصر ولا يؤبه به، ومنحت لنفسها الحق في أن تتحدث باسمه تحت شعار لطيف اسمه أعمال السيادة تأسيا بالدولة الحقيقية ذات النظم الديمقراطية. فيكون التنازل عن الجزر أعمال سيادة لا رقابة للقضاء عليها ولا رقابة للبرلمان من باب أولى، ولا رقابة لأحد، فيضيع الوطن وسيادته تحت ذريعة أعمال السيادة التي يستخدمها البعض بصلافة وفجور يحسدون عليه. ونسي الجميع أن الشعب أوقف هذه المهزلة في 25 يناير، وأن ما يحدث من تنازل عن أرض مصر بقرار يوصف بالسيادة؛ هو جريمة كبرى تستحق المساءلة الجنائية. والأدهى أن التنازل خطيئة سياسية. وأما نفي الطابع المصري عن الجزيرتين، فهي خطيئة وطنية وقهر لهذا الشعب على التسليم بالخطيئة، وهو إذا سلم خوفا فسوف تلعن الأجيال القادمة هذا الجيل وعمله، وتسترد ما فرط به وضيعه من حقوقها. فالقضية لن تنتهي أمام القضاء ولا البرلمان، ولكنها تنتهي بالعودة عن الخطيئة والاستغفار لله والاعتذار للشعب والوطن، وإلا اعتبر التنازل تفريطا متعمدا لا يمكن تمريره.
والتنازل هو انتقاص من عناصر الأرض المصرية؛ يوم أقسم الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء ورئيس النواب والنواب والقضاء، على احترام الدستور والقانون ووحدة أراضي الدولة وسلامتها. وقد تولى هؤلاء جميعا السلطة ومصر تحتضن جزرها، ويصرون على انتزاعها من حضن أمها، ثم يرفضون لباس الستر، ويلحّون في هذا السلوك المستهجن بتحدي محكمة القضاء الإداري الذي كان بحق حاميا ضد محاولات نهب الجزيرتين، وشهادة ميلاد لقطعة من الوطن في مواجهة الزيف لانتزاعها من أحضانه. ومن حسن الحظ أن هذا الحكم البليغ قطعة من الأدب القانوني في تعليم من لا يتعلم؛ أن أعمال السيادة ليست قاصرة على الحكومة وأنها ليست قدرا مقدورا، وأن مناط حصانة العمل هو استهداف المصلحة العامة. ومن حسن الحظ أيضا أن رسالتي في جامعة باريس تعالج في أحد أقسامها أعمال السيادة في مجلس الدولة المصري، كما تخصص فيها أيضا د. محمد أحمد عطية، قاضي قضية الغاز.
فأعمال السيادة، وإن كانت في الغالب مرتبطة بأعمال الحكومة، إلا أن الحكومة يجب أن تتوفر فيها الرشادة والسلوك القويم، وأن تكون منتخبة انتخابا حرا، وأن يكون موضوع العمل مصلحة عليا، وألا تحوم الشكوك حول سلوك السلطة حولها.
ونظرا لأن التنازل يكون لطرف أجنبي ومن أرض مصرية، فإن ذلك يزرع الأشواك بين الشعب المصري وشعب الدولة الأخرى التي لم تطالب بشيء، وأن الحكومة المصرية تطوعت، وتجرأت على إسقاط جنسية الجزر المصرية وتجاهد لإلباسها الثوب والجنسية
السعودية، والسعودية منها براء. فأعمال السيادة هي قرارات لصالح الوطن وتتخذها الحكومة وكيلا عن شعب انتخبها ووكّل القضاء لمراقبة هذه القرارات وبحث مصداقيتها، وعند اللزوم يتم اللجوء إلى الشعب، وهو الأصيل صاحب السيادة على السلطة بكل مكوناتها، وعلى أرضه.
وعندما تنفرد السلطة بقرارات تخدش حق الوطن وسيادة الشعب، وتحتمي باسم أعمال السيادة، يحدث التناقض بين سيادة السلطة وسيادة الشعب، أو هو انحراف بالسلطة في ممارسة السيادة عن سيادة الشعب. وبالطبع لا يمكن الاطمئنان إلى أن أي برلمان هو الشعب، وإلا لما أصرت الدساتير في الدولة الديمقراطية على استفتاء الشعب رغم المصداقية الهائلة في برلماناتها.
سيادة الشعب فوق سيادة الحكومة وسيادة الوطن وقدسية أرضه ضد مزاعم إسقاط الجنسية والتنازل، وهي العاصم من هذه الأساطير.
ثانيا: الفهم الخاطئ للحصانة والشؤون الداخلية في مصر
والمحزن أن من يحتمي بجرائمه وراء الحصانة والشؤون الداخلية؛ هم أشخاص حصلوا عملهم على حساب الدولة فرفعوا شعارا غريبا، وهو أن الحكومة حرة في التعامل مع شعبها، فترتكب تزوير إرادته، وتسومه سوء العذاب، وتتفنن في ارتكاب جرائم حقوق الإنسان، وحجتها أن ذلك من الشؤون الداخلية.
وأظن أن استحضار حكم اللوردات عام 1998 بالغ الأهمية بعد زوال الغشاوة بثورة 25 يناير؛ التي كانت وهجا روحيا حرر النفوس، حتى لو ظل أعداؤها يتخبطون في الظلمات لاقتلاع الإيمان بالوطن وحريته من القلوب.
في قضية الجزر، استقر الضمير الوطني والتاريخ والقانون والجغرافيا ووثائق الدولة جميعا، حتى يوم 9 نيسان/ أبريل 2016، على أن
تيران وصنافير مصرية، وفوجئ الجميع بموقف غريب من السلطة بأنها كانت سعودية، رغم وثائق الأجهزة التي تربينا فيها ودون مطالبة من السعودية. وكنا نود أن نرى مطالبة وتتصدى لها السلطة والشعب من ورائها، لا أن نرى المشهد المخزي لأم الدنيا الذي ضيّع هيبتها. وأخشى أن يتم التحكيم بين الشعب والسلطة، وهو ما حدث في حكم محكمة القضاء الإداري الذي فصل بينهما. فإذا السلطة كبر عليها، ينتصر الحق ومصرية الجزر، فتجادل على غير أساس، ولم تند بها السعودية لذلك، حتى صار الناس يتندرون في العالم كله: أهي حكومة سعودية بلباس مصري أم أن في الأمر أمرا؟
على كل حال، ليس أمام الحكومة إلا أن تنصاع لحكم القضاء وتلملم الموضوع؛ لأنه لا يمكن تمريره، وإذا أرغم الناس اليوم فسوف يستردون حقهم غدا، وإن غدا لناظره قريب.
على الحكومة أن تدرك أنها ارتكبت خمس خطايا سياسية وثلاث خطايا قانونية:
أما الخطايا السياسية، فأولها: أنها ظنت أن الشعب قد أرهقته إجراءاتها، فأرادت أن تمرر صفقة خاسرة. والخطيئة الثانية هي ظنت أن نخبة الشعب قد استسلمت إما خوفا وإما طمعا، وإما رضى بذهب السلطان، أي سلطان. والخطيئة الثالثة، أنها لم تدرك أن شباب ما بعد يناير لا يثقون في أحد، وسقطت أمامهم المقدسات من فرط تفريط المؤسسات في حق أنفسهم. والخطيئة الرابعة أنها لم تنسق بالقدر الكافي مع السعودية على صلب المسرحية، وأنها اختارت مؤلفا غبيا ومخرجا أغبى، وكذلك الممثلين. فهم يرقصون وهم عرايا ويرى الناس عوراتهم فى زمن العولمة. أما الخطيئة الخامسة أن السلطة ظنت أن الجزر عربون تحالف أبدي، ما دامت إسرائيل في نظرها هي الكفة الراجحة، فوضعت نفسها بمحاسبات خاطئة في الموقف الخطأ، وكانت مبادرة أردوغان صاعقة في قلب الموازين مع إسرائيل وروسيا ثم إيران، ليخرج الفريق الذي راهنت السلطة عليه وحاولت استرضاءه. والمخرج الوحيد هو رضى الشعب وكرامة مصر والمصريين، وتحرر الناس في جمهورية الخوف. وأما المخرج فهو التضحية بكل من ضلل صاحب القرار أو امتنع عن النصيحة، وفشل في مهمته عبر الوطنية.
أما الخطايا القانونية، فهي ثلاث: الأولى، أن السلطة أرهقت القضاء، ولكن الشباب يراهن عليه رغم الثقوب السوداء التي أحدثتها السلطة، خاصة في قضية تمثل الجزء الصلب عند كل الشعب، بمن فيهم القضاء والجيش والشرطة التي يتم رهان السلطة عليهم، وهم أدوات الشعب وحماته.
الثانية أن السلطة قدمت مبررات واهية، وسجلت على نفسها في التاريخ ما لا ترضاه سلطة عاملة، سمحت لعدد من شباب المحامين بهزيمتها في أولى المواجهات القانونية، بعد أن قمعت السلطة الشباب المحتج على التنازل عن جزر تخصه. والثالثة، أن السلطة أسقطت الجنسية المصرية عن الجزر، وهي ملك الشعب كله، في اغتصاب ظاهر للسلطة. فكيف تبرر السلطة هذا العمل بأنه من أعمال السيادة؟ إنه من أعمال نزع السيادة!