العلاقة مع باقي قطاعات المجتمع:
يقال إن سلوك البشر هو نتيجة مباشرة لما يحملون من أفكار، وانعكاس تطبيقي لها في واقع الحياة. وبنظرة سريعة للجانب السلوكي لدى كثير من منتسبي الحركات الإسلامية وأعضائها، نلاحظ أنهم يمارسون نوعا من الاستعلاء تجاه الآخر المختلف فكريا أو من يقع خارج الإطار الحركي، حتى لو كان مستهدفا بمشاريعهم وبرامجهم، وهو ما ينطبق على عامة الشعب.
وسواء شعروا وكان ذلك بإرادتهم أم لا، فهو في الغالب نتيجة التغذية الفكرية والبرامج التربوية التي شكلت العقل الجمعي وغرست فيه هذه المفاهيم المبتسرة - إذ ربما كان بعضها صحيح المنطلق لكن وقع التشوه والانحراف في التطبيق- فضلا عما تضيفه الفروق الفردية والطبائع الشخصية لدى كل منهم زيادة أو نقصانا.
أزعم أن الكثيرين منهم يراه إيجابيا أو علامة صحة من باب "الاستعلاء بالإيمان"، بينما يحس البعض الآخر بذواتهم وفضلهم كلما طرقوا أبواب المساجد في عتمات الليل والنَّاس نيام. واجتمع الاثنان على قياس صلاح الناس ومنسوب إيمانهم بما يظهر من أفعالهم. وعليه فغير المحجبة عاصية مجروح دينها، فلا نظر لمن تنشر الفتنة ولا تعامل إلا من باب الضرورة أو في أحسن الأحوال تأليف القلوب فربما تأثرت واهتدت. وكذلك غير الملتحي، فليس ملتزم في عرف البعض، وصاحب بدعة عند غيرهم، ويستحق الزجر بالهجر وما يستتبعه من تجهّم وربما إغلاظ قول وخشونة فعل، لعله يتوب، وكل من لا يرتادون المساجد فعليهم علامات استفهام وإيمانهم على المحكّ!!
الاستعلاء بالهداية:
لقد عاش الإسلاميون - وما زال كثير منهم يعيش - في وهم أنهم الأفضل والأتقى لله، أو الفرقة الأقرب من النجاة في الآخرة إن لم تكن الناجية بالقطع، وكأن اتّباع من سبق من الأمم داء لم يسلموا منه حتى من قاموا يردون الناس لصفاء الدين ورحابة الشريعة، طبقوا عمليا قولهم: "نحن أبناء الله وأحباؤه"، أو قولهم "ليس علينا في الأميين سبيل"، فيا لها من طامة مركبّة.
والأخطر في تقديري هو التأصيل لذلك الفهم بالحديث عن العزلة الشعورية عن المجتمعات، وإن كانت هناك مخالطة حسيّة يهيمن عليها الإحساس بالتميّز، ليتحول الإسلامي مع الوقت إلى قاض يحاكم النيّات وعلى وفق معياره في الالتزام يقرب ويبعد أو بمفهوم آخر يوالي ويعادي. فالطبيب
الإخواني يحوّل حالاته على طبيب إخواني في تخصص آخر، والتاجر السلفي لا يتعامل مع غير السلفي في مهنته إلا مضطرا، مما جعل تلك الحركات الإسلامية أقرب إلى الجيتوهات والكنتونات والجزر المعزولة داخل محيط المجتمع، مما وفر فرصة هائلة للإعلام المغرض أو أجهزة الدول التي تناصبهم العداء إلى توسيع الهوة بينهم وبين عوام الناس في المجتمع، حتى وإن كانوا أول المستفيدين من خدماتهم.
كما تم تغليف هذا الانغلاق على الذات وقصر التعامل والثقة على المشابه من الاتجاه ذاته أو الجماعة ، بهالات من التضخيم والتخويف والتشويه إلى حد الرعب من تلك الكائنات وعالمها السرّي، كما صوّره أعداؤهم، مما سهل كسر عظامهم أو حتى اجتثاثهم حين لزم الأمر واقتضت المتغيرات السياسية والأمنية في بعض البيئات، دون أن يبكي عليهم أحد أو يرثى لحالهم مع ما به من مآس تشيب لها الولدان.
منطق الوصاية على الناس:
الأمر الآخر أن الحركات الإسلامية بنت تعاملها مع المجتمع -في غالب البيئات- بمنطق الوصي وربما القاضي لا بمنطق المعلّم والطبيب لأدواء الناس. فرأى كثير منهم في أنفسهم طليعة المجتمع وقادته، وحماة الوطن المسؤولين عن اتخاذ القرار والوصول به إلى برّ الأمان. ورغم نبل هذا الإحساس إجمالا، إلا أنهم حملوا أنفسهم مالا طاقة لهم به، فضلا عما لم يكلفهم به الله شرعا، حسب وجهة نظري.
إن أخطر قضايا الوجود هي الإيمان والكفر، وقد قال الله عنها لنبيه الكريم، وهو المبلّغ عن الله وأعلى المكلفين شأنا من بني البشر: "لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين". شتّان بين خدمة الناس والعمل على إسعادهم، وبين نحر الرقاب وإزهاق الأنفس من أجلهم.
إن هذه الآية الكريمة تصلح أن تكون قانونا يضبط حركة المصلح في مجتمعه حيثما كان، يمكن أن نطلق عليه قانون "لعلك باخع نفسك". ويأتي معها في المرتبة ذاتها قوله تعالى، يحدد لرسوله وظيفته: "وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا". وقوله: "إن أنت إلا نذير". ويزيدها جميعا وضوحا حين توضع بجوار قوله: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا".
إن وظيفة الرسل والأنبياء كانت تعليم الناس لا قيادتهم، وأغلب الرسل ما أقاموا دولا بل أصلحوا نفوسا، وأكثرهم ما آمن معه إلا قليل.
لو كانت السلطة في ذاتها هدفا لرضي بها رسول الله من أول يوم عرضت عليه؛ دون أن يتعرض لتلك المعاناة البشعة هو ومن معه.
وعليه، فإن وظيفة الحركات الإسلامية - في رأيي - تعليم الناس أن يختاروا الأصلح وأن يدافعوا عن خيارهم. أن يتذوقوا معنى الكرامة وسمو التضحية من أجل حرية أوطانهم، لا أن يموتوا هم من أجل من لا يقدرون الحرية ولا يضعون اعتبارا للكرامة الإنسانية.
ولعل تلك المقولة التي تسري كالنار في الهشيم على صفحات التواصل الاجتماعي الآن منسوبة للشيخ رشيد رضا - وهي ليست له وإن صح معناها - تعبر عن قناعات البعض: "الثائر لأجل مجتمع جاهل، هو كشخص أشعل النيران بجسده كي يضيء الطريق لضرير".
نعم الشعب يحتاج إلى قائد. فلتعلمه كيف يختار القائد، لا أن تجعل نفسك هذا القائد؛ منطلقا ربما من قناعة مسبقة بأن جموع الملايين من هذا الشعب ليس بينها من يصلح قائدا غيرك أو من خارج فصيلك!! لا تعتقد هذا للحظة، فهو هراء، كما لا تجبر الناس على الحرية مكرهين إذا استمرأوا العبودية، ولا تؤزهم عنوة إلى محراب الكرامة إذا استلذوا المهانة؛ لأنهم حينها سيكونون أول المقاومين لتغيير ما اعتادوا عليه.