لا خلاف على أهمية دور الحاكم الرشيد في حياة الناس، وضرورة سعي الأمة بمختلف أطيافها لإيجاد هذا النموذج، أو على الأقل قريبا منه. لكن اختلافا قد يقع حول مواصفات هذا "الحاكم الرشيد" الذي تتباين صورته في ذهن كل مواطن. ولو أجري استطلاع للرأي لخرج بجملة من الصفات التي تقارب المثالية، أو تستقي تصورها لهذه الوظيفة من زمن الخلافة الراشدة، مرورا بسيرة عظماء القادة ورموز الأمة عبر تاريخها وصولا لواقعنا المعاصر. وهنا تبرز عدة أسئلة أعتبرها جوهرية في هذا الشأن:
- كيف يمكن إيجاد هذا الحاكم في إطار الدولة القطرية الذي نعيش في ظله، مع اختلاف أسلوب تداول
السلطة في كل منها؟
- حين تضع جماعة
الإخوان المسلمين - أو أي جماعة أخرى - من أهدافها "إيجاد الحاكم المسلم"، فهل تعتبر هذا الهدف واجبا شرعيا لا يمكن التخلي عنه؟ أم إنه فرض كفاية انتدبت نفسها فيه نيابة عن الأمة؟ أم هو خيار حركي يقبل النقاش حوله وفق متغيرات الواقع وحيثياته؟
- هل يمكن أن يكون إيجاد هذا الحاكم فرض كفاية أصلا لتقوم به جماعة من المسلمين، بينما أغلب الأمة قد سقط عنها التكليف؟
- هل يري غالبية الشعب مواصفات هذا الحاكم كما تراها الجماعة؟ أم إن هناك قالبا ذهنيا معينا للحاكم في تصوّر الجماعة؛ لا يتفق مع رؤية تلك الأغلبية التي تختلف اهتماماتها الحياتية كثيرا أو قليلا عن أولويات هذه الجماعة أو ذلك الحزب؟ وهل من حقها في تلك الحالة أن تفرض نموذجها للحاكم على غيرها؟ وما آلية ذلك؟
- أم إنها ستقدمه وفق آليات سياسية معاصرة، فيلقى حينها القبول أو الرفض حسبما يقرره الشعب بمختلف توجهاته؟
لمزيد من التحديد أقول إن التجربة العملية بيّنت أن جماعة الإخوان المسلمين ترى الحاكم المسلم عضوا ذا صفات خاصة داخل الجماعة، ولا يمكن أن تقبل بغير هذا، سواء كان ذلك الغير ممن يحمل الفكر الإسلامي الوسطي وليس عضوا في الجماعة، أو كان عضوا سابقا فيها، أو حتى مناصرا لفكرها وتوجهها.
أعلم أن كثيرين يعتبرون ما حدث في مصر بعد الثورة خطأ في التطبيق، وأن الإخوان يقبلون بأي حاكم مسلم توفرت فيه المواصفات الأساسية. ولهؤلاء أقول: هل يقبل إخوان مصر اليوم بأحد أعلام السلفية أو الصوفية أو التبليغ أو أنصار السنة حاكما لمصر؟ بعيدا عن سؤال الإمكان والتحقق فهذا مبحث آخر.
أيا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة، فقد بات معلوما من الواقع بالضرورة والممارسة أن هناك خيارا تتوق جموع الإخوان ومحبوهم في العالم؛ لمعرفة الرأي فيه اليوم وليس غدا. ولعل قيادة الجماعة – بعد التشاور مع أعضائها وأهل الاختصاص – تصل لأحد هذه الخيارات وتعلنها قبل فوات الأوان، وحينها قد يفرض عليهم أحدها، إما بخيار من قواعدها أو بإملاءات وضغوط خارجية؛ لتتماشى مع توازنات سياسية وأجندات مصالح القوى الإقليمية والدولية.
على الإخوان أن يحددوا موقفهم من السلطة بوضوح، وأن يتخذوا من الوسائل ما يكفي لتحقيق أهدافهم وفق هذا الخيار أو ذاك. (1) فإذا أرادوا السلطة، فإن طريقها في دول العالم الثالث هو القوة، ومن ثم عليهم إيجاد كيان هدفه الوصول للحكم باستخدام القوة، فيعلم كل من ينضم إليه ابتداء أين يضع قدمه وما هي وسائله وأهدافه، لتكون الصورة واضحة ويتحمّل عواقب اختياره بإرادته. (2) أو أن السعي للسلطة ليس من أهداف الإخوان، ومن ثم فلا داعي لإضاعة الجهود في مسرحيات سياسية تهدر الجماعة فيها طاقاته،ا ولا تحصل منها سوى تجميل الوجه القبيح لأنظمة ديكتاتورية، وعليها حينئذ اتخاذ الوسائل التي تحقق بها أهدافها.
من أراد أن يصبح طبيبا، فعليه الالتحاق بكلية الطب ودراسة علومه وإتقان تخصصاته، أما أن يدخل أحدهم ابنه كلية الدعوة أو التجارة وينتظر أن يتخرج في نهاية المطاف طبيبا، فهذا محض وهم لا يقول به عاقل. إذن فالمصارحة مع الذات والأعضاء واجب الوقت.