هو ثاني وزير في الحكومة
التونسية الحالية الذي تخنقه العبرات أمام مستمعيه. كان الأول وزير الصحة عبد اللطيف المكي (من كوادر حركة النهضة)، عندما كان في حوار صحفي مع وسيلة إعلامية بصدد تحذير المواطنين من التساهل في مواجهة وباء
كورونا. إذ كان يخشى من حصول كارثة وطنية في بلاد تئن تحت وطأة تحديات كثيرة وعويصة.
أما الوزير الثاني فهو نزار يعيش، هذا الشاب الذي عينه رئيس الحكومة إلياس فخفاخ على رأس وزارة المالية. فقد وجد نفسه غير قادر على مواصلة الكلام عندما كان بصدد التحاور مع أعضاء اللجنة المالية في البرلمان التونسي. لم يستطع أن يتحكم في دموعه وهو يستعرض الحالة التي وصلت إليها المالية العمومية لبلد يمر بانتقال ديمقراطي نادر؛ في منطقة يحاصرها الاستبداد من كل جهة.
استهجن البعض بكاء المسؤولين، واتهموهما بالضعف أو الفشل أو استعطاف الرأي العام لتحقيق أهداف سياسية وحزبية ضيقة، لكن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن المسؤول مهما علا شأنه يبقى إنسانا يحس ويتألم، وقد يبكي دون أن يكون وراء ذلك القيام بمناورة تكتيكية.
لقد أحس المستمعون لوزير المالية بصدقه عندما لم يتحمل النطق بحقيقة مرة، وهي أن تونس تواجه اليوم خطر الإفلاس. الدولة مطالبة بتوفير 11 ألف مليار دينار لغلق الميزانية التي تضررت كثيرا بسبب الركود الذي أصاب محركاتها الأساسية، بعد انهيار السياحة وتراجع أسواقها التقليدية ومداخيلها الجبائية عقب توقف آلة الإنتاج وتصدير السلع والخدمات. صحيح أنه يعود السبب إلى الوباء القادم من الصين، لكن الأسباب التي تقف وراء ذلك أعمق وأخطر وأكثر تعقيدا.
نتحدث عن دولة كانت ولا تزال تحظى باحترام العالم. تونس بلد صغير، لكن صيتها أكبر بكثير من حجمها.
فمن قرطاج التي تقع على بعد كيلومترات من قلب العاصمة خرج عسكري غيور على دولته التي بنت أعرق ديمقراطية في المنطقة، وتمكن القائد حنبعل من محاصرة روما، وكاد أن يلقي القبض على القيصر لولا الغدر والخيانة. من هذا البلد أيضا توجه طارق بن زياد الأمازيغي (أشهر القادة العسكريين في التاريخين الأيبيري والإسلامي) نحو إسبانيا، لينجح في اختراقها رغم أن معرفته بالبحر محدودة، ويمهد بذلك لقيام الدولة الأندلسية.
في هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة أصدر الوزير الأول خير الدين التونسي كتابه الشهير "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، ضمّنه رؤيته الإصلاحية التي لا تزال يشار إليها في مختلف الجامعات العربية والإسلامية، متخذا من ابن خلدون التونسي مثالا الذي يعتبر مؤسس علم الاجتماع في تاريخ الذاكرة الإنسانية.
تونس اليوم في خطر رغم أنها نجحت في إرساء نظام ديمقراطي قابل للحياة بقطع النظر عن الثغرات الكبرى التي يعاني منها، إلا أن ثورتها التي مكنت شعبها من التخلص من نمط حكم استبدادي وأصبحت مفخرة لكثير من العرب، لم تجد نخبة سياسية تتحمل مسؤوليتها كاملة وتحول
هذه الثورة إلى فرصة حقيقية لإنشاء نهضة فعلية ومتعددة المجالات.
إذ بدل أن تتضافر جهود الجميع، ويتم الاستعانة بأهل الخبرة والقدرة والتضحية، حصل العكس في كثير من الحالات، حيث تنافس القوم على مأدبة السلطة، وزعم كل طرف بكونه الأحق والأجدر،
وتقاتلت الأحزاب والجماعات من أجل افتكاك وزارة أو موقع، ورفعت الشعارات بدلا عن تقديم برامج مدروسة تفيد المواطنين الذين كانوا يأملون بأن تتغير أحوالهم نحو الأفضل. وبدل أن يكون الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي المدخل للنهوض بتونس ما بعد الثورة، هيمن الارتجال والأطماع والهواية على الاختيارات وتسيير مؤسسات الدولة واختيار المسؤولين وتوزيعهم على المواقع والوزارات، حتى كادت أن تسود سلوكيات الجشع والأنانية والحسابات الحزبية الضيقة على حساب المصالح العليا للبلاد.
لم يعد بالإمكان اللجوء مرة أخرى إلى التداين الخارجي الذي تجاوز الخطوط الحمراء. ولم يعد بالإمكان ان تتأجل الإصلاحات الضرورية التي تهربت الحكومات السابقة من القيام بها رغبة من المسؤولين عليها في البقاء في الحكم أطول فترة ممكنة.
كانوا بدون استثناء يفتقرون للشجاعة السياسية ويخشون الدخول في حوار صادق وصريح ومفتوح مع النقابات ومع الرأي العام، وهو ما جعل السفينة التونسية تترنح وتكثر ثقوبها وتتراجع وقدراتها وتفقد رصيدها السابق واحتياطاتها الدفاعية، حتى كادت أن تصبح بدون مناعة فعلية.
رغم تغلب تونس على كورونا، إلا أن
الهواجس الاقتصادية والاجتماعية أضعفت الرغبة في الاحتفال بهذا الانتصار الهام في الجولة الأولى على الأقل من المواجهة. فالمؤشرات تدل على وجود توسع تصاعدي
للحركات الاحتجاجية، واتساع رقعة المطلبية التي ستكون عنوان المرحلة القادمة. أما الحكومة فهي مضطرة للكشف عن كل الحقائق المرعبة التي تتعلق بإمكانيات الدولة ومستقبلها المالي. وعلى
الأحزاب والنقابات ورجال الأعمال تحمل مسؤولياتهم.