المواطنة وحال العشوائية التي نعيش من أخطر القابليات التي يتآكل فيها مفهوم المواطنة، خاصة الجانب الحقوقي منها، تحت وطأة الزحف
الاستبدادي.
العشوائية ليست مناطق أو مكانا؛ بل هي أبعد من ذلك، هي نظام مسكون بالعشوائية، هذا النظام يفرز مجتمعا عشوائيا. ويفرز المجتمع العشوائي ظواهر عشوائية، وتتراكم الظواهر العشوائية لتحكم بناء مجتمع عشوائي، وهكذا الجدلية والتفاعل بين المجتمع العشوائي والظاهرة العشوائية والسلطة المستبدة.
مفهوم الظاهرة بوجه عام يشير إلى عناصر التكوين والتراكم، وخصائص الاستمرارية والتواتر وأشكال الشمول النسبي والتكرار. وهي قد تشير إلى حدث أو مشكلة أو إشكال أو قضية صارت مع توافر هذه الأركان والسمات والأشكال تأشيراً على وجود ظاهرة وتنامي أشكالها وتكاثر تجلياتها في جنبات المجتمع، وسائر أنساقه ونظمه وتنظيماته وتفاعلاته وعلاقاته.
الظاهرة بهذا الاعتبار تكرار وانتشار واستمرار وآثار؛ أما العشوائية فهي حالة من الاختلاط والاختلال والمصادفة والتداخل، وقد تعبر عن مظاهر وتأشيرات تمثل حالة انحراف، أو حالة مرضية أو وضع اختلال، تمثل في البداية حالات استثنائية تتراكم في الوجود وتستمر في المشاهد وتنتشر في الجنبات ويمكن رؤية بعض الآثار السلبية الدالة عليها وجودا واستمرارا. وآثار العشوائية تشير إلى كلمات في اللغة من مثل خبط عشواء، أو اختلاط الحابل بالنابل، أو الفوضى.
وفي هذا المقام تبدو الظاهرة العشوائية مع استمرارها حالة أو مسألة أو قضية كبرى، تتحول مع التراكم الشديد واستحكام عقدة الظواهر وإمعانها في التأثير في المجتمع والأفراد (فكرا، وقيما، وسلوكا) على جملة من الأزمات الأساسية التي تتحول مع تجاهلها أو إغفالها أو التعتيم عليها (كحالات عشوائية في ذاتها)، وفي إطار مناهج وطرائق التعامل معها، تتحول إلى جملة من الأزمات البنيانية والهيكلية في المجتمعات وأنساقها، فتفقد الأنساق ميزتها في الانسجام والتراتب والسواء، وتتحول الى حالة من التشرذم والفوضى والانحراف.
وتصير العشوائية حالة إنسانية ومجتمعية تتسم به؛ بحيث يمكن وصف المجتمع بكونه مجتمعا عشوائيا تتفاعل فيه حزمة من الظواهر العشوائية التي تراكمت وتمكنت في أنساق المجتمع (المعرفية والإدراكية، القيمية والأخلاقية، الحركية والسلوكية)، فتصير مع تفاعلاتها طرائق تفكير وأحوال تسيير وأساليب تدبير؛ كلها تصب في عشوائيات الظواهر المجتمعية والمجتمع العشوائي، فتمكن له ما تمكن، وتصير عشوائية الظواهر من وجودها كـ"هوامش" أو حالة استثنائية إلى تراكمها في متن الظواهر وأساسياتها وجوهرها ومعظم وسطها والبيئة المجتمعية عامة، فتتحول إلى "متن" في المجتمع بعد أن كانت هامشا، إن صح هذا التعبير.
وتتشابك عشوائية الظواهر من غير اشتباك حقيقي معها، فيقع معظم الناس في حبائلها وشباكها، ويصير التصور المجتمعي المكون لصوره الذهنية معايشا لهذه العشوائية، متفقا مع صورها وأشكالها، موافقا على كامل مساراتها، فتحدث حالة من حالات التفكير الذى يتسم بحالة من حالات اللامبالاة الشديدة، وتخرج مقولات تتوج حال الظاهرة وتراكمها واستمرارها وانتشارها على قاعدة "دع الأمور تمشى في أعنتها"، أو مقولة حاكمة من مثل "نحن لا نصلح الكون".
ويصير من ينبه إلى هذه الظواهر أو خطورتها، "يعيش في كوكب آخر". قد لا يرى الجميع في رسالته تلك غير مقام "النذير"، بل هو "الخيالي" الذي لا يتعرف على حقيقة الواقع وشروطه في إطار يساير مقولات "ما تغلب به، العب به" في سقوط وتدهور ووقوعية تأخذ سمت الواقعية المدُعاة، فتؤصل معنى التقليد والمحاكاة والمسايرة، والاستسلام والخنوع "امش جنب الحيط"؛ "خليك في حالك وانت مالك"، لا معاني الإصلاح والممانعة والمقاومة لهذه الظواهر، فتملك بذلك وكل يوم أنصارا جُددا، وتفقد كل يوم أو تحبط معظم عناصر استجابات المواجهة أو الممانعة.
ويصير كل من ينبه أو يقف في وجه تنامي هذه الظواهر وتراكمها وإحكام عقدتها؛ كمن" يسبح ضد التيار"، و"كناطح صخرة" لا يؤثر فيها، بينما قد تكون الصخرة سببا في تكسر أفعاله وانكسار أحواله بل وإهلاك كيانه.
وتتساند ظواهر لتحكم حال الظواهر العشوائية والمجتمع العشوائي من مثل الظواهر الدالة على اللامبالاة (أنا مالي، اسكت تسلم)، والظواهر الدالة على الانخداع برأي الجمهور وفكر الإمعة (أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت)، والظواهر الدالة على التعامي وافتعال الغفلة (كبّر دماغك، ليس في الإمكان أبدع مما كان، باب يأتيك منه الريح سده واستريح)، والظواهر الدالة على عبثية الإصلاح أو الممانعة (نحن لن نصلح الكون، دع الخلق للخالق) الظواهر الدالة على اليأس والإحباط وعدوى المسايرة (كان غيرك أشطر، ليس هناك من فائدة، هذه ليست بلادنا.. هذه بلادهم)، والظواهر الدالة على الحالة الإذعانية في إطار من الرضا الكاذب ونفاق الظواهر غير المرضى عنها (نحن نستأهلهم..!! من خاف سلم)؛ تتسم الظواهر العشوائية بسمة رئيسية قد ينخدع البعض في تصورها.
وتبدو هذه الظواهر في حال استحكامها وتراكمها تستفيد من طبيعتها "الحربائية" أو التلون الذى يصيبها، بحيث تتخذ لون الوسط الذي تعيش فيه، فتستخفي، فلا يلحظها أحد في بدايتها وبواكيرها. هذه "الحالة الحربائية" مع وسط الغفلة والتغافل القابل لهذه الظواهر؛ تشكل شروط تمكين الظواهر العشوائية، وتجعل الظاهر منها قليلا إذا ما قورن بحجم المكنون في جوفها من عناصر تكوينها وتراكمها. "سطح الظاهرة" يوهم الكثيرين بأن الظاهرة ما زالت تعبر عن حالات استثنائية، بينما تكون الظاهرة على أرض الواقع قد تراكمت وتعقدت واستحكمت.
ويقع في قمة الأسباب التي تسمح بتمكين هذه الظواهر العشوائية ظاهرة
السلطة ذاتها وتصوراتها حيال نفسها وحيال الآخرين؛ خاصة إذا ما عرفنا أن من أكد على ضرورة السلطة للاجتماع الإنساني وجعلها من الظواهر الفطرية انطلق من قاعدة تؤكد أن في السلطة والسلطان؛ الأمان والأمن، النظام والتنظيم، الاستقرار والنماء.
السلطة بما تملكه من "قوة" مرهونة بـ"شروط" هي القيام "بوظائفها" على نحو "شرعي"، وذلك ضمن إطار عقد تأسيسي يقوم على قاعدة "السلطة قوة"، ولكن من جانب آخر السلطة مسئولية، والمسئولية تفرض المساءلة، وكل أمر لا يرتجى إلا لآثاره ولا يؤمنه إلا العمل لمقصوده، فإن تحول الأمن لهرج والنظام إلى فوضى والاستقرار إلى حالة من الخنوع والخضوع، أو التفلت من غير ضابط ولا رابط؛ فإن كل ذلك لا يمكن بأي حال أن يشكل بيئة للنماء أو الارتقاء، أو للتعمير أو للتثمير.
ومن هنا، لو كانت القوة والسلطان كما في أحد معانيهما القوة والبطش، فإن الوجه الثاني من معانيهما هو الحجة والبرهان. ومن هنا وجب على السلطة أن تسير ضمن مسار سلطان الحجة، لا حجة السلطان في وجوده ضرورة. ومن سلطان الحجة يكون مسار السلطة في سياق شرعيتها "الرضا العام" ومشروعيتها "التوافق النظامي والقانوني". وليس للسلطة أن تجعل من القانون مجال تلاعبها أو تجعله ألعوبتها، فيفقد القانون معناه ولا يحقق مبتغاه، ويصير القانون ملكا لمن يعزفه لا تحقيقا لمصالح البشر وضبط عناصر معاشهم، وسلطة تحقق عناصر قرارها واستقرارها باستبدال الخوف بالأمن، والنظام بحال الفوضى أو هو في حكمها من عشوائية الاستقرار المزعوم بالاستقرار الجوهري الحقيقي والمشروع، والمستند إلى حقيق الرضا والشرعية.
وفي كل الأحوال يفقد مفهوم المواطنة معناه ومغزاه بين سندان العشوائية ومطرقة الاستبداد.
twitter.com/Saif_abdelfatah