(1)
أستأذنكم في الموت لبعض الوقت، فالحياة هذه الأيام أرخص وأسوأ من كل أنواع الموت.
يقول صاحبي متفاكهاً:
الحياة الحمراء أم الحياة الزرقاء؟ في إشارة إلى ألوان فضائية "الحياة"
المصرية المغتصبة.
أحمر وأزرق، تلك هي المشكلة..
يفكر المغرمون بعصور النبالة في ثنائية الدم الأحمر والدم الأزرق، ويفكر المصريون في دلالات الأحمر والأزرق بتشعب لا ينتهي، فلديهم العفاريت الزرق، والدبّان الأزرق، وهنشتغل في الأزرق، والسنين الزرقاء، ولديهم "حمرا" بكل ما تشير إليه من إيحاءات تتوزع بين السخونة والازدراء.
أما المهتمون بالسياسة وأخبارها في هذه الأيام فيتذكرون أمريكا وثنائية الأحمر والأزرق التي أشعلها بايدن وترامب.
وهنا يتذكر أحد الطيبين أنني وعدت في الأسبوع الماضي باستكمال
قصة بنسلفانيا وعلاقتها بالانتخابات الأمريكية، وهذا ما أعتذر عنه لأسباب غير مقنعة، أقواها هو السبب الذي يتصدر هذا المقال.. إنني مضطر للإغفاء في "قيلولة موت صغيرة"، ليس انسحاباً، ولكن التماساً لرؤية أنقى وفرصة أهدأ لمناقشة زملائي "الأموات الآخرين" في شؤون الحياة التي يهتمون بها أكثر من أحياء يتقاتلون بلا كلل ولا ملل بأسلحة الهراء والمراء.
(2)
قبل أعوام قليلة، مع وضوح انكسار ثورة يناير وحصار الربيع العربي في "زنزانة المؤامرة"، اضطررت للخروج من كهفي الضيّق والاشتباك مع الواقع، وقد استدعى ذلك التعامل مع الإعلام الإخباري والتعليق على الأحداث على حساب التفكير وبناء المواقف العقلية والوعي الجمعي الرصين، وحينذاك كتبت عبارة قصيرة حذرت فيها نفسي من الانزلاق في "بالوعة الأخبار"، وأذكر النص التحذيري القصير الذي قلت فيه:
"أمامي فرصة عظيمة للتحول إلى ظاهرة غوغائية"..
مرت الأيام (من المرور ومن المرارة) وأنا أشتبك مع الحرص على تجنب الفرصة العظيمة للهراء والمراء، لكن هذا لم يمنع تورطي المحسوب في الغوغائية للحفاظ على ضرورة التواصل مع ضحايا اللغة السائدة، وأصحاب المواقف الجامدة، وبقايا العقول التي تفضل الشتائم على العزائم، وتتوسع في المراء واللعان على حساب الفهم والاتزان.
لكن الاستمرار أطول من ذلك قد يؤدي إلى اقتناعي بضرورة اللحاق بمن شربوا من "نهر المراء"، فليس هناك سبيل لاستمرار التواصل مع مجتمع لا تنوي تعلم لغته، بينما هو يمضي في جنونه أو في خياره الخادع بحماس يجرف في طريقه كل عقل وكل اتفاق، فسوف تظل منبوذاً إذا لم تشرب مما شرب الجميع، وهذه هي المعضلة التي عجزت عن حلها.
والاعتراف بالعجز ليس نهاية المسار بقدر ما هو دليل وعي بتعديل بضرورة تقييم الحلول المتاحة واستبدالها بحلول أجدر وأكفأ. ولعل استراحة "الموت المصطنع" تساعد على التخفف من أضرار جنون المرحلة، خاصة وأن لدينا هذه الأيام إشارات عن فوائد "التباعد الاجتماعي" لحماية الذات من مهالك الحياة وسط الأوبئة.
(3)
لا أخجل من تعبي، ولا أعتبر الاعتراف بالعجز ضعفاً، ولا أنظر للابتعاد كانقطاع، ولا أنوي التنازل عن رغبة الفرد الحالم في تغيير العالم، فقط أفتش عن وسائل جديدة ودروب أقصر ورفاق طريق على مستوى مخاطر المسيرة.
لن أعتزل، لن أنسى، لن أكون بعيداً، فقط أحتاج إلى بعض الوقت لأعتني أكثر بالحديقة.
(4)
لن أقول وداعاً، وإن كان لا بد من وصية أو موعظة عند الوداع القصير، أقول لكم: لا تنسوا أن تفكروا في حديقتكم، لا تكثروا من هجاء الذباب ولا تنفقوا الجهد والوقت في مطاردة الناموس، اعتنوا بحديقتكم أفضل.
أراكم على نصر..
أراكم على حرية وكرامة وعدل..
أراكم على وحدة وخير..
[email protected]