دخلت الهبّة الشعبية
الفلسطينية أسبوعها الثالث طارحة مزيد من التساؤلات عن إمكانية تحولها أو تطورها إلى انتفاضة ثالثة، وسط سجال سياسي وشعبي حول طبيعتها، وحتى عن جدوى التحول إلى انتفاضة عارمة في ظل الواقع الجاري في فلسطين والمنطقة.
بداية نحن بالتأكيد أمام أجواء انتفاضة لم تتحول بعد إلى انتفاضة فعلية ولفحص أو حتى التكهن بإمكانية حدوث ذلك لابد من التمعن جيدا في خلفيات تشكل الأجواء الحالية، كما في الأسباب الثلاث الأساسية التي قد تحول دون تطورها إلى انتفاضة ثالثة، ناهيك عن السجال حول طبيعتها وأساليبها، وهل ستكون أقرب إلى الانتفاضة الأولى؟ انتفاضة الحجارة نهاية ثمانينيات القرن الماضي أو إلى الانتفاضة الثانية المسلحة التي اندلعت مطلع القرن الحالي، واستمرت لخمس سنوات تقريبا.
ثمة ثلاثة أسباب رئيسية للهبّة الجماهيرية الحالية؛ يتمثل أولها بالممارسات الإسرائيلية في القدس، وتحديدا في الحرم القدسي الشريف، ووصول للغطرسة الإسرائيلية إلى حد العمل الفعلي، وليس التفكير فقط في إجراء التقسيم الزماني والمكاني بين المسلمين واليهود.
كما هو الحال الآن في الحرم الإبراهيمي الشريف، علما أن تقسيم الحرم الإبراهيمي بدأ أيضا وكأنه مكافأة للمستوطنين على تطرّفهم وإجرامهم خاصة، أنه جاء مباشرة بعد مجزرة الإرهابي باروخ غولدشتاين في نيسان/ أبريل من العام 1994.
أما السبب الثاني فيرتبط مباشرة بممارسات وجرائم المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، والتي وصلت إلى حد إحراق عائلة فلسطينية بكاملها دون اعتقال المجرمين رغم إقرار وزير الدفاع الإسرائيلي بمعرفتهم، ولكن دون امتلاك الأدلة على تقديمهم للمحاكمة، وهو عكس ما يحدث مع الفلسطينيين، علما أن إسرائيل تتحمل المسؤولية عن الشعب الخاضع للاحتلال، حتى مع وجود
السلطة الشكلية الضعيفة والعاجزة عن حماية شعبها، وإجبار الدولة العبرية المحتلة على تحمل مسؤوليتها.
فيما يكمن السبب الثالث في حالة اليأس والإحباط التي تسود القيادة الفلسطينية وفشل خياراتها السياسة ووصولها إلى حائط الرئيس، وعجز الرئيس عن إلقاء قنبلته، كما وعد في الأمم المتحدة الشهر الماضي، سواء حل السلطة أو إعلان فلسطين دولة خاضعة للاحتلال، ناهيك عن تجاهل القضية من قبل معظم المتحدثين من على المنبر الأممي، بما في ذلك الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين.
في هذه النقطة تحديدا يمكن الحديث عن جيل فلسطيني جديد ولد بعد اتفاق أوسلو– المشؤوم-وشاهد الأحاديث والأحلام عن الدولة الفلسطينية، تتهاوى وسلطته أو قيادته عاجزة ليس فقط عن تحقيق تلك الأحلام، وإنما أيضا عن حمايته من جرائم
الاحتلال والمستوطنين، فقرر أن يدافع بنفسه عن مقدساته وحقوقه عن أماله، حياته، وحتى عن هيبة سلطته،بما توفر لديه من أدوات ووسائل.
مقابل هذه الأسباب الثلاثة التي أنتجت أجواء الانتفاضة ثمة ثلاثة عوامل ومعطيات أخرى حالت حتى الآن، وقد تحول في المستقبل دون تطورها أو تحولها إلى انتفاضة ثالثة شاملة أي كان شكلها أو إطارها العام.
أول هذه العوامل يكمن في سلطات الاحتلال التي لجأت إلى التهدئة نوعا ما، خاصة فيما يتعلق بالحرم القدسي الشريف، وكبح جماح المستوطنين كما تحاشت رغم دعوات غلاة متطرفيها أي خطوات تصعيدية مفصلية وكبيرة من قبيل اجتياح الضفة الغربية أو حتى فرض عقوبات جماعية واسعة على الفلسطينيين في الضفة غير أن الطبع يغلب التطبّع، دائما عند الاحتلال وفي البحث عما يسمى إسرائيليا صورة الانتصار أو استعادة قدرة الردع، واصلت الدولة العبرية قتل المزيد من المدنيين الفلسطيين، ولكن مع الحرص دائما على عدم إدخال كتل بشرية كبرى إلى الهبة الحالية.
ثاني العوامل يتمثل بموقف السلطة الفلسطينية التي ما زال رئيسها يؤمن بالعمل السلمي، ويرفض أي فعاليات عنيفة في مواجهة الاحتلال، وهي أي السلطة تفهم طبعا أن انتفاضة واسعة قد تؤدي إلى انهيارها، وفي الحد الأدنى التأثير سلبا على أوضاع الناس السيئة أصلا.
وقد لا تحقق مكاسب سياسية جدية، ناهيك عن أن فكرة السلطة نفسها ما زالت تمثل مصلحة شخصية وحزبية لفئات معتبرة ومؤثرة في الطبقة السياسية الفلسطينية.
أما العامل أو الكابح الثالث المؤثر والجوهري جدا أيضا فيما يتعلق بالهبة الجماهيرية الحالية، كما القضية الفلسطينية بشكل عام، فيكمن في الانقسام الفلسطيني الكارثي الذي يحّول دون التوافق على أي إستراتيجية أو سياسة موحّدة خاصة أن ثمة تباين هائل وكبير كيفية إدارة الصراع مع الاحتلال ومواجهة سياساته وممارساته في القدس الضفة الغربية بشكل عام.
الانقسام يقف أيضا خلف طرح أسئلة متناقضة كثيرة من قبيل؛ لماذا التهدئة في غزة فقط، ولماذا لا تبادر السلطة في الضفة إلى وقف التنسيق الأمني وحماية شعبها؟ ولماذا تبدو السلطة في غزة عاجزة أيضا عن نجدة الضفة؟ ناهيك عن حماية مواطنيها أيضا من آلة القتل الإسرائيلية.
التوازن النسبي بين الأسباب الثلاثة التي خلقت أجواء الانتفاضة والعوامل الكابحة التي تحول دون تطورها إلى انتفاضة واسعة أدّى إلى بقاء الهبّة في مستوياتها الحالية، رغم أنها باتت على أعتاب أسبوعها الثالث.
لا يكتمل المشهد الفلسطيني في الحقيقة دون التطرق إلى نقطتين إضافتيين غاية في الأهمية، وهما غزة ودورها في الهبة، والصراع مع الاحتلال بشكل عام كما وجود السلطة الفلسطينية نفسها بعدما تحوّلت إلى العائق والحاجز الذي يحول دون اشتباك جدي بين الشعب والاحتلال سواء بشكل جماهيري حاشد أي نموذج الانتفاضة الأولى أو بشكل مسلح وفصائلي كما الانتفاضة الثانية.
غزة في حالة دفاعية منذ تنفيذ خطة فك الارتباط الشارونية، وهي غير قادرة على نجدة الضفة سوى بالصواريخ أو الحرب، وهي الآن منهارة ومدمرة وأوضاعها لا تسمح لها لا بهذه، ولا بتلك والمفارقة، أن الضفة كانت وما زالت أقدر على نجدتها كونها تستطيع الاشتباك مع الاحتلال واستنزافه بشكل مباشر ويومي مع منعه من استخدام الطائرات والمدفعية أو الحدّ الأقصى من القوة ضدها كما هو الحال مع غزة.
أما فيما يخص السلطة فمن المستحيل الذهاب إلى انتفاضة شاملة في وجودها، وهذا الأمر إن حدث سيؤدي إلى إضعافها، والنيل من هيبتها وصولا إلى انهيارها أو دفعها للتنكيل بالشعب المنتفض عملا بالاتفاقيات التي ما زالت ملتزمة بها، علما أن جوهر اتفاق أوسلو الذي خرجت السلطة من رحمه وتستمد شرعيتها –الدولية- منه يتحدث عن حل الخلافات والأزمات مع الاحتلال بالوسائل والطرق السلمية، ونبذ العنف بما في ذلك الكفاح المسلح طبعا.
إذا ما دمجنا النقطتين معا أي غزة وحالها والسلطة وواقعها، يمكن الاستنتاج أن الدور الذي يمكن أن تلعبه الأولى سياسي بامتياز، ويستلزم بالضرورة انهاء الانقسام وتشكيل حكومة توافقية جدية، وإعادة بناء ديموقراطية نزيهة لمنظمة التحرير، من أجل إجابة جماعية وتوافقية على أسئلة عدة، أهمها سؤال السلطة نفسها ودورها في دعم الهبة الحالية، كما في المشروع الوطنى بشكل عام.
في الأخير ببساطة واختصار، نحن أمام لحظة حسم تاريخية مشابهة لتلك التي مررنا بها في نهاية العام 2000 مع اندلاع الانتفاضة الثانية، انذاك تحاشى الرئيس الشهيد ياسر عرفات الحسم بين السلطة (أوسلو التسوية من ناحية) والهبة الجماهيرية التي تحولت لانتفاضة مسلحة من ناحية أخرى، والتي كان من المستحيل عمليا الجمع بينهما في سلة واحدة بينما أدى التذاكي والتحايل لفعل ذلك، ضمن أسباب أخرى طبعا إلى الوضع الكارثي الذي نعيشه الآن بما في ذلك الانقسام.
بمعنى آخر في وجود السلطة، لا إمكانية جدية لأي إنتفاضة لا جماهيرية ولا مسلحة، وإذا ما أردنا فعلا الذهاب إلى انتفاضة شاملة، فلابد أن يجرى التخلص من السلطة أولا، وفي ظل غياب الإرادة وربما حتى القدرة لفعل ذلك، لابد من التركيز على المصالحة لإنهاء الانقسام، والتوافق على إستراتيجية وطنية موحدة لإدارة الصراع، تدمج بين الوسائل السياسية الديبلوماسية والشعبية السلمية، إستراتيجية تستنزف اسرائيل وتمنعها من إكمال مخططاتها التهويدية والاستيطانية، مع الاقتناع التام أن لا احتمال جدي للحسم لا الآن ولا على المدى المنظور، واليقين التام أيضا أن ما لا يدرك كله لا يترك جله.