إن الدستور المثير للجدل والمرفوض من أغلبية الشعب الجزائري بنسبة وصلت في مجموعها (بين ممتنع ومصوت بلا) إلى 87% من مجموع الذين يحق لهم التصويت، وهذا باعتراف رئيس اللجنة الوطنية للانتخابات بعد الفرز في نهاية عملية الاستفتاء، ولكنه لم يعط النسب المئوية بـ "نعم" و"لا" إلا في منتصف نهار اليوم التالي دون أي تبرير لهذا التأخير إلا قوله إن "السوسة المدسوسة" هي التي كانت سببا في تأخير إعلان النتائج المعتمدة لاحقا دون أي تفصيل شفاف من اللجنة عن كيفية استخراج تلك النسب المئوية مقارنة بالمحاضر المعلن عنها تباعا من عين المكان في مراكز الاقتراع يوم الاستفتاء كما سجلها المراقبون وأثبتتها الطعون!
أخطر مواد الدستور
علما أن أخطر مادة في هذا الدستور، محل الريبة والرفض والجدل، هي الرابعة التي تنص على ترسيم (لغة مفترضة) هي غير موجودة كلغة موحدة الاستعمال في الواقع باعترافهم أنفسهم أنها أشتات من اللهجات الشفهية (كما اثبتنا ذلك في مقالنا ليوم الخميس الماضي، ولن تتوحد أبدا إلا في مخيلة أصحاب هذا الدستور (الذريعة) الفاضحة لتثبيت استعمال اللغة الفرنسية في الجزائر وبلاد المغرب العربي الأخرى التي لم يستعمل شعبها منذ زوال الاحتلال الروماني (بلغته اللاتينية)، أية لغة مكتوبة غير العربية منذ الدولة الرستمية، في القرن السابع الميلادي إلى دولة الأمير عبد القادر أثناء مقاومة الاحتلال الفرنسي في القرن التاسع عشر!.
أما اللهجات المحلية (العربية والبربرية،) فقد ظلت دائما، موجودة، ومستعملة محليا مثل كل الأقطار العربية مشرقا ومغربا دون أية عقدة أو مشكل على غرار ما هو قائم في فرنسا ذاتها مع لغاتها المحلية (التي يفوق عددها العشر لغات دون أن ترسم أي منها في الدستور الذي لا يعتمد إلا لغة واحدة وطنية ورسمية للدولة، على اعتبار أن لا وحدة وطنية دون وحدة لغوية) كما قال الإمام عبد الحميد بن باديس في هذا الخصوص عن فرنسا ذاتها: "... إن اختلاط الدماء في فرنسا والدول الأوروبية قائم ولم يحل ذلك دون أن تكون فرنسا أمة واحدة لاتحادها فيما تتكون به الأمم.. بينما نجد على جبال فرنسا وفي قراها من لا يحسن اللغة الفرنسية ولكن ذلك القليل "نظرا للأكثرية" لم يمنع من أن تكون فرنسا أمة واحدة، وهذه الحقيقة الموجودة في فرنسا يتعامى الغلاة المتعصبون عنها، ويحاولون بوجود اللغة البربرية في بعض الجهات، وجودا محليا، وجهل عدد قليل بالعربية أن يشككوا في انتماء الجزائر إلى الأمة العربية التي كونتها القرون وشيدتها الأجيال".
ونتبين هنا الربط التوثيق في الهوية الوطنية بين الإسلام والعربية، مع إسقاط العامل العرقي، تماشيا مع منطق العصر، (علميا وسياسيا ووطنيا) مثل فرنسا ذاتها السيدة على أرضها وشعبها الخليط من كل الأعراق والأصقاع والألوان البشرية كما تعترف هي بقانون المواطنة في دستورها الذي يحلل لنفسه ما يحرمه على غيره وهذا هو سبب التناقض الصارخ بين ما يفعله المحتل الأجنبي مع نفسه وما يفرضه بالتعمية والتضليل والتلاعب على غيره!؟
إن اختلاط الدماء في فرنسا والدول الأوروبية قائم ولم يحل ذلك دون أن تكون فرنسا أمة واحدة لاتحادها فيما تتكون به الأمم.. بينما نجد على جبال فرنسا وفي قراها من لا يحسن اللغة الفرنسية ولكن ذلك القليل "نظرا للأكثرية" لم يمنع من أن تكون فرنسا أمة واحدة
وتفويتا من ابن باديس على هؤلاء، المتربصين، فرصة تقويض أسس هذه الوحدة الوطنية للشعب الجزائري والمغاربي عموما يرد عليهم بقوله: "ليس تكون الأمة يتوقف على اتحاد دمها، ولكنه يتوقف على اتحاد قلوبها، وأرواحها، اتحادا يظهر في وحدة اللسان وآدابه، واشتراك الآلام والآمال.."، إلى أن يقول "تكاد لا تخلص أمة لعرق واحد، وتكاد لا توجد أمة، لا تتكلم بلسان واحد، فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها، ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها، هو هبوطها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل كل ذلك هو تكلمها بلسان واحد..".
وهكذا ظلت اللغة الجامعة والجامع هي العربية وحدها منذ الفتح الإسلامي ككل البلاد العربية الأخرى مشرقا ومغربا، ولم يحل ذلك دون أن تبقى كل اللهجات المحلية متعايشة معها دون أي تعارض، بحيث أنها ظلت متداولة، طوال تلك القرون، وما تزال كذلك إلى اليوم، دون أن تعرف لها أي نوع من التعليم أو الترسيم، كما يروج له مهندسو هذا الدستور لحاجة في نفس يعقوب الفرنسي نحن فضحناها في كتابنا "فرنسا والأطروحة البربرية الخلفيات الأهداف الوسائل البدائل"، الصادر عن دار الأمة في الجزائر سنة 1990.
لقد قلنا إن اللهجات العامية أمر طبيعي وهي باقية نظرا لوظيفتها الاجتماعية الضرورية.. طالما وجد في الدنيا أميون كما سنفرد لذلك مقالا خاصا بذاته قريبا إن شاء الله!!
ظلت اللغة الجامعة والجامع هي العربية وحدها منذ الفتح الإسلامي ككل البلاد العربية الأخرى مشرقا ومغربا، ولم يحل ذلك دون أن تبقى كل اللهجات المحلية متعايشة معها دون أي تعارض، بحيث أنها ظلت متداولة، طوال تلك القرون، وما تزال كذلك إلى اليوم،
فلماذا ترسيم هذه اللهجات وتوحيدها (الافتراضي) مستقبلا في الدستور المذكور لو لم يوجد من وراء ذلك مطلب قومي أيديولوجي استحلالي لتأبيد التبعية اللسانية وبالتالي السيادية والسياسية والثقافية لفرنسا الرسمية كما فصلنا ذلك في مقالنا ليوم الخميس الماضي.
إن ترسيم أية لغة في العالم يعني خلق هوية متميزة لشعب بعينه، والهوية تعني الاستقلال للشعب المعترف له بثوابت هويته المتميزة عن غيره وهو ما يخول له المطالبة بتقرير المصير عن الدولة القائمة والحاكمة وقد يكون هذا الطرف المطالب هو شعب محتل من دولة أجنبية، مثلما كانت فرنسا بالنسبة للجزائر، أو تطلب هذه الطائفة المتميزة من الدولة الوطنية (القائمة) التي ستصبح هي بدورها دولة أجنبية (غازية ومحتلة) بالنسبة لجزء من شعبها إذا اعترف له بالتميز الهوياتي كما سيحدث حتما بتطبيق هذا الدستور مستقبلا! وهو الهدف من وراء هذا التعديل كما قلنا....!؟
وإذا استجابت هذه الأخيرة، (أي الدولة القائمة) لاستقلال هذه الأقلية (اللغوية أو العرقية) لفرض تقرير المصير من أجل الحكم الذاتي أو إنشاء دولة مستقلة قائمة بذاتها كأي من الدول المغاربية الحالية بالنسبة للدولة الفرنسية المحتلة لها في السابق..!
سيناريو يمهد للانفصال
فإن السيناريو ذاته سيتكرر حتما بين الشعب الجزائري الموحد الهوية تجاه المحتل الأجنبي (الفرنسي) المغاير له في ثوابت الهوية (عربي / فرنسي) وداخلي خارجي ليصبح الانقسام داخليا (عربي/ بربري) هذه المرة داخل ذات الهوية الموحدة سابقا ضد العدو الخارجي الأوحد لتصبح منشطرة (أرضا وشعبا) ويأخذ هذا الانشطار في الانحدار الخطير بحكم (الخطوة الأولى) مع الترصد وسبق الاصرار في اصطناع هوية ضرار بترسيم لسان افتراضي ليس له مقومات الوجود والبقاء إلا على حساب وحدة اللسان الوطني الوحيد لصالح اللسان الضرار الجديد المرسم لخلق الفئة المعترف لها بالتميز الهوياتي (أرضا وشعبا) وحمايته من الداخل بنص الدستور... ومن الخارج بالويل والثبور وعراقب الأمور!
فيحدث عندنا ما هو مبيت لنا على غرار ما حدث دوليا مع تيمور الشرقية أو دولة جنوب السودان أو دولة كردستان بين حدود أربع دول مشرقية (هي إيران وتركيا والعراق وسوريا) لصالح الكيان الغاصب لفلسطين هناك كما يهدف الدستور المعدل هنا لهذا الغرض في بلادنا المغاربية لخلق (تامازغا الكبرى) لصالح تلك الجهة الأجنبية ذاتها وبنفس الأسلوب (الاستحماري) الموصل إلى المستفيد الوحيد القريب والبعيد.
وهو نفس الأسلوب المنتهج منذ سنة 2014 مع بعض الشعب الأوكراني الناطق بالروسية في جزيرة القرم يسبب تهاون الدولة الوطنية في عدم التوحيد اللغوي السيادي على كامل التراب والشعب الأوكراني... كما اعترفت الحكومة الأوكرانية مؤخرا بهذا التقصير السيادي الخطير بعد أن كلفها غاليا مع الروس الذين يعتبرون كل الناطقين بالروسية مواطنين روس يستحقون الجنسية الروسية ولو كانوا قادمين من المريخ!؟
وبهذا المنطق (الروسو فوني) فصلت جزيرة القرم بالقوة عن الدولة الأكرانية الأم، وكذلك الأمر بالنسبة للجزء التركي من جزيرة قبرص المقسمة بين تركيا واليونان على أساس (عرقي ديني لساني) ولا يمكن لقبرص التركية أن تصبح قبرصية على الإطلاق مستقبلا والتاريخ بيننا!
وأخيرا يمكن ذكر مطالبة جزيرة كورسيكا بالاستقلال عن الدولة الفرنسية الموحدة التي ترفض رفضا قاطعا الاعتراف بأية لهجة أو لغة جهوية، كما صرح بذلك كل روساء دولتها السابقين واللاحقين الذين يرفضون أي تنازل عن وحدة اللغة الفرنسية لأنها أساس وحدة الهوية ووحدة الدولة الفرنسية ذاتها كما يقول معظم ساستها وعلمائها البارزين بأن اللغة هي الجنسية وهي السيادة والهوية (انظر الإجماع الشعبي والرسمي الفرنسي حول هذا الموضوع في أدبيات الأحزاب الفرنسية الخاضعة لحكم الأغلبية في الديمقراطيات الشعبية...).
والخلاصة أن هذا الترسيم (المكشوف اليوم) للغة افتراضية تقحم (كمادة صماء) في الدستور الجديد، هو كما قلنا ونؤكد بأن هدفه الوحيد هو تأبيد اللغة الفرنسية في البلاد المغاربية على الطريقة الروسية في أوكرانيا وليس من أجل أية لهجة أو لغة وطنية أو رسمية، تختلف عما كان عليه الوضع قبل أربعة عشر قرنا من التاريخ الوطني المكتوب كله باللسان العربي حتى دولة الأمير عبد القادر مع دولة المحتل كما قلنا (انظر لغة المعاهدات الرسمية..)
هذا الترسيم (المكشوف اليوم) للغة افتراضية تقحم (كمادة صماء) في الدستور الجديد، هو كما قلنا ونؤكد بأن هدفه الوحيد هو تأبيد اللغة الفرنسية في البلاد المغاربية على الطريقة الروسية في أوكرانيا وليس من أجل أية لهجة أو لغة وطنية أو رسمية،
ومن المفارقات أن القانون الدولي يقر الحدود الجغرافية التي ورثتها الدول عن الاستعمار، إلا الحدود اللغوية التي تركت غير مقيدة لتجيرها تلك القوى الظالمة لصالحها تحت عناوين مختلفة المضامين ولكنها كلها ذات غاية واحدة في النهاية تتمثل في تأبيد الاستحلال اللساني الأخطر بعد الخروج الصوري للاحتلال العسكري الأصغر!؟
ومن ذلك قول بعض أقلامهم وحكامهم في بلادنا المستحلة بأن (اللغة الفرنسية غنيمة حرب) (وهي في الحقيقة أكبر وأبشع جريمة ارتكبت من المحتل في حق هوية هذا الشعب المسالم الموحد اللسان والوجدان على اختلاف دوله الوطنية المتعاقبة عبر الأجيال حتى ابتلي بمصيبة الاحتلال الاستطاتي (اللساني) الحالي الذي يأبى الزوال كما يؤكد لنا الفرنسيون أنفسهم في الكثير من مواقف زعمائهم التي قد تختلف في بعض الأمور (الاقتصادية والاجتماعية....).
إلا أنها في هذه النقطة المصيرية والسيادية بالذات (الخاصة بنا وبهم)، فإننا نجدهم كلهم على قلب رجل واحد وكأنهم يلقنون المعزوفة (الوطنية) من مايسطرو واحد يحسدون عليه وهو في قبره بمدينة كولومبي ذات الكنيستين؟!
للمزيد انظر كتابنا (اطلبوا الوطنية ولو في فرنسا!؟) دار الأمة، الجزائر 2005.