اجتهد علماؤنا الأجلاء منذ مطلع القرن العشرين، في الدفاع عن الإسلام كدين شامل لكل مناحي الحياة، وأنه لا فصل فيه بين الدنيا والآخرة، ولا بين أعمالها، فكل منهما يوصل للآخر، وأن العلمانية التي يراد منها فصل الدين عن الدولة، أو عن الحياة، هي ناتج عن صدام في الغرب لم يحدث في الإسلام، ولا بين أهله.
والدعاء بشكل خاص، والعبادة بوجه عام، في التصور العلماني للدين والحياة هو شأن خاص، سِرٌّ بين الإنسان وربه، مكانه في غرفة بيته، أو في المسجد، وليس للإنسان أن يخرج بذلك للعلن، فهذا ليس من الشأن العام، ولا مجاله المجال العام، ولا المشاركة العامة.
فضلا عن أن تقول: إن للدين ـ أو الإسلام ـ كلمة وقولا في شتى ميادين الحياة، فالمسلم يجد كل مجال من مجالات الحياة لا يخلو من أمر شرعي ينبغي عليه أن يتمسك به، أو يبتعد عنه لتحريم الإسلام له.
وقد أبلى علماؤنا في الرد على هذه النقاط قديما بلاء حسنا، وكتبوا في ذلك كتابات في غاية الأهمية والقوة، غير إنني ألاحظ أمرًا مهما لم أجده ـ فيما أعلم ـ في استدلالاتهم وردهم على المنادين بفصل الدين عن الحياة، أو الشأن العام، وحصره في الشأن الخاص بالمسلم، وهو: دعاء القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، فقد وجدت فيه الأدلة الواضحة والمتواترة بشكل متواتر ودائم على نفي عزل الإسلام عن الحياة، أو حصره في المجال الخاص للإنسان.
ربما وجدنا ذلك في أديان أخرى حرفت، لكنه في الإسلام مختلف تمامًا، فهو يدخل في الشأن الخاص والعام معًا، مما يدل على اشتباك الدين الإسلامي مع الشأن العام والخاص في حياة الإنسان والمجتمع، إننا نجد أن أدعية القرآن والسنة ليست أدعية خاصة بالعبادة، بل هي أدعية تشمل جميع مناحي الحياة، وجميع حالات الإنسان الخاصة والعامة بلا استثناء.
فهناك أدعية تتعلق بتفاصيل الإنسان، منذ أن يولد إلى أن يموت، بل قبل أن يولد وبعد أن يموت، بل رأينا أدعية تتعلق بطلب المنصب ومؤهلات الدنيا قال تعالى: (رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي. وَيَسِّرۡ لِيٓ أَمۡرِي. وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةٗ مِّن لِّسَانِي. يَفۡقَهُواْ قَوۡلِي. وَٱجۡعَل لِّي وَزِيرٗا مِّنۡ أَهۡلِي. هَٰرُونَ أَخِي. ٱشۡدُدۡ بِهِۦٓ أَزۡرِي. وَأَشۡرِكۡهُ فِيٓ أَمۡرِي) طه: 25-32. فنبي الله موسى طلب في دعائه لربه: أن يشرح صدره، وأن ييسر أمره، وأن يحلل عقدة من لسانه، وطلب المؤازرة بأخيه، وهي في ظاهرها مطالب خاصة حياتية ودنيوية، ولكنه أوضح في نهاية مطالبه الغاية والهدف منها، فقال: (كَيۡ نُسَبِّحَكَ كَثِيرٗا. وَنَذۡكُرَكَ كَثِيرًا) طه: 34،33.
ودعاء الحاكم الشاكر لربه، يقول تعالى على لسان نبي الله سليمان: (رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ) النمل: 19، هو نفسه النبي الذي دعا ربه فقال: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) ص: 35. ولو حصرنا أدعية القرآن الكريم المتعلقة بشؤون الحياة الخاصة والعامة، وورودهما في سياقات متصلة معا، فأمرها يطول بمجرد الكتابة دون شرح لها، بداية من أدعية العبادة، وانتهاء بالدعاء في الحرب والسلم.
الأدعية المتعلقة بالشأن العام الذي يدخل في باب السياسة، أو الطقس والكون، أو الحياة والبيع والشراء والاقتصاد، تلتقي مع أدعية أخرى في مجال خاص جدا، وهو دعاء المسلم إذا نظر في المرآة، وإذا لبس جديدا، ودعاء دخول المنزل، وكذلك دعاؤه إذا جامع زوجته، ودعاؤه إذا أكل أو شرب، ودعاؤه إذا دخل دورة المياه، فهنا التقى الشأن العام بالشأن الخاص،
وعلى نفس الخط تسير أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكثرها، فنجد فيها: دعاء الحرب، ودعاء السوق، ودعاء الاستسقاء، ودعاء الكسوف والخسوف، ودعاء رؤية الهلال، كل ذلك شأن عام، ومع ذلك يرتبط به التشريع الإسلامي ارتباطًا وثيقًا سواء من حيث الأحكام الشرعية، أو الدعاء.
وكل هذه الأدعية المتعلقة بالشأن العام الذي يدخل في باب السياسة، أو الطقس والكون، أو الحياة والبيع والشراء والاقتصاد، تلتقي مع أدعية أخرى في مجال خاص جدا، وهو دعاء المسلم إذا نظر في المرآة، وإذا لبس جديدا، ودعاء دخول المنزل، وكذلك دعاؤه إذا جامع زوجته، ودعاؤه إذا أكل أو شرب، ودعاؤه إذا دخل دورة المياه، فهنا التقى الشأن العام بالشأن الخاص، وهو أبلغ رد لمن أرادوا حصر الإسلام أو الدين في الأمور الخاصة بالإنسان داخل بيته، وهو كلام فارغ لا ينطلق من نصوص أو وحي، كما رأينا.
بل إن دعاءً واحدًا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلل بوضوح على هذا الشمول للشأن العام والخاص في الدعاء، وهو دعاؤه صلى الله عليه وسلم: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر".
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: "وقال: "اللهم أصلح لي ديني، ووسع علي في ذاتي، وبارك لي في رزقي". قال الإمام السِّنْدي: "قوله: في ذاتي؛ بشرح الصدر، وسعة الخلق".
فهذه الأدعية تشمل كل حال للمسلم، وكل ما يتعلق به سواء من حيث دينه، أو دنياه، أو آخرته، أو كل خير نافع له، عاما كان أو خاصا، وهي كما نرى في مقالنا إشارات سريعة دون إسهاب، ولكنها تدل بوضوح على المعنى، لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
الجيش التّونسيّ بين المبادئ العامة وضرورة الفعل (4)
إلى أين يمضي بنا وبعالمنا النَّوويُّون الكبار؟!
يمين عنصري ولوبيات مشبوهة تفشل في خدش المونديال