الانتخابات الأخيرة في
تركيا أظهرت عبقريات جديدة في التاريخ والواقع، وأعادت رسم الخريطة السياسية
بأبعاد جديدة.
(1)
المستفيد الأكبر منها هي
الدولة التركية، التي عبرت عن نفسها وأظهرت تطورها السياسي الذي ينافس تطورها
الحضاري والاقتصادي.
لقد حبس العالم أنفاسه متابعاً
لأحداثها ومستمتعاً بإثارتها وسخونتها، وشاركت في أحداثها القوى الكبرى من خلال إعلامها
ودبلوماسييها وربما مخابراتها، وعادوا بخفي حنين منهزمين أمام الثبات التركي،
وأمام عبقرية وزعامة الطيب
أردوغان.
في أقل تقدير، لن يتجاوز
أحد، فيطلب من الأتراك أن يتعلموا
الديمقراطية من الانتخابات الغربية أيا ما كانت،
بل من حقهم أن يفخروا بما حققوه، وعلى العالم الغربي -بعد هذه الانتخابات- أن يشهد
للأتراك بالأستاذية والتفوق.
دفعاً لتهمة المبالغة،
يمكننا ببساطة استحضار المشهد الانتخابي التركي الآني، في مقابل المشهد الانتخابي
الأمريكي الأخير بين ترامب وبايدن، سنجد رصانة ونضجا وعمقا في الممارسة والأداء
هنا، بينما شهدنا مهاتراتٍ وتشنجاً وخروقات في قرينتها الأمريكية، كان من أشهرها
اقتحام "كابيتول" وجدليات ومواقف الرئيس الأمريكي ترامب من النتيجة ومن
تسليم السلطة.
(2)
هذا من باب الرؤية العامة
للانتخابات التركية التاريخية كما ينبغي أن نراها ونوصّفها، أما عن التفاصيل فيمكن
أن نرصد بعض الملاحظات شديدة الوضوح وشديدة الجرس، ومنها:
أن المنافس الرئاسي السيد
كليتشدار أوغلو فرض على الرئيس رجب أردوغان جولة إعادة، واستطاع الرجل أن يتحصل في
جولتي الانتخابات على أكثر من 45 في المئة من أصوات الناخبين، وهو رقم محترم ربما
أكبر من ملاءة الرجل ووزنه في الشارع.
نستطيع القول إن ملف
الهوية كان حاضراً بقوة في مشهد الانتخابات، وأننا كنا ولا زلنا أمام استقطاب هوية
بامتياز بين الإرث الكمالي من جانب، والتوجه الإسلامي في الجهة المقابلة. هذا
الاستقطاب هو من رفع قدر الرجل ومنحه هذا الوزن "المنتفخ" في النتائج
النهائية لكلا الجولتين.
كنا إلى وقت قريب نرى أن أتاتورك يحكم تركيا من قبره، ولكن بعد عقدين من حكم أردوغان يمكن القول إننا تجاوزنا هذه المقولة، بيد أننا وبعد الانتخابات الأخيرة يلزمنا أن نقول إن الرجل -أتاتورك- لا يزال إلى اليوم يحكم قريباً من نصف الشعب التركي
من الحقائق -التي تتعلق
بالهوية- وصرخ بها المشهد، أن الإرث الكمالي (نسبة لكمال أتاتورك) لا زال متجذراً
في الشارع التركي، وأنه استطاع الحشد في مواجهة أردوغان وأيديولوجيته كمشروعين
متصارعين بأكثر من تنافس سياسي على منصب أو مرحلة.
الولاء للكمالية أوجد من
يدافع عن إرثها حتى على حساب المكتسبات المعيشية كالصحة والتعليم والخدمات، وأوجد
كذلك من يرفض إنجازات أردوغان ويعتبر أن ارتقاء تركيا على يديه هو هزيمة للكمالية،
ومن ثم فلترقَ تركيا أو لا ترقى؛ لا يهم، لأن الأهم عندهم هو الإرث الكمالي
والعقيدة العلمانية المجافية للدين.
كنا إلى وقت قريب نرى أن
أتاتورك يحكم تركيا من قبره، ولكن بعد عقدين من حكم أردوغان يمكن القول إننا
تجاوزنا هذه المقولة، بيد أننا وبعد الانتخابات الأخيرة يلزمنا أن نقول إن الرجل -أتاتورك-
لا يزال إلى اليوم يحكم قريباً من نصف الشعب التركي.
كذلك يمكن القول إن السنوات
الخمس القادمة في ولاية أردوغان -التي منحها له الشعب التركي- ستكون أرضية لصراع
عاصف بين فلول الكمالية وبين صعود أيديولوجية أردوغان الهادئة الواثقة.
(3)
بالنسبة للسيد كليتشدار
أوغلو لا شيء جديد في المشهد، فالرجل خسر الانتخابات كما يخسرها كل مرة، أما السيد
رجب طيب أردوغان فعلى الرغم من أنه لم يُهزم في أي انتخابات شارك فيها، إلا أنه
تذوق فوزه هذه المرة بشكل مختلف.
بعد أن حسمت هذه الانتخابات خمس سنوات جديدة تحت ولاية أردوغان وأيديولوجيته، يظل سؤال المستقبل التركي يراوح مكانه؛ خاصة مع تقدم الطيب في العمر: من سيملأ الفراغ الشاسع حينئذ؟! سواء بانقضاء الأجل أو انقضاء الولاية الأخيرة لأردوغان؟
هذه الانتخابات هي الأولى
الذي يتأجل انتصاره لجولة إعادة، كما أن الانتصار هذه المرة لم يكن على منافسه
السيد كليتشدار أوغلو.. الطيب أردوغان انتصر على المعارضة جميعا وطاولتهم السداسية
مجتمعة، ومن خلفهم انتصر على العقيدة الكمالية متحصنة ببقايا فلول العسكرية
التركية.
ليس هذا فحسب، بل إنه انتصر
على الغرب الذي شارك في خندق المعارضة بإعلامه ودبلوماسيته وسفاراته وربما
مخابراته. كما انتصر كذلك على الزلزال وآثاره، وعلى تداعيات حرب أوكرانيا
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعلى بقايا آثار وباء كورونا.
(4)
وختاماً؛ بعد أن حسمت هذه
الانتخابات خمس سنوات جديدة تحت ولاية أردوغان وأيديولوجيته، يظل سؤال المستقبل
التركي يراوح مكانه؛ خاصة مع تقدم الطيب في العمر: من سيملأ الفراغ الشاسع حينئذ؟!
سواء بانقضاء الأجل أو انقضاء الولاية الأخيرة لأردوغان؟
أعتقد أن هذا هو واجب
الوقت وفريضة الأيديولوجية وسؤال اللحظة الراهنة، وعلى أردوغان وعبقريته نطرح
السؤال.