كتبت من قبل تنويها عن كورونا وفيروسات أخرى؛ ووجدت لدى الكواكبي عبارة تشير إلى أن
الاستبداد أشد فتكا من الجوائح، بل هو "جائحة الجوائح"؛ وأن ضحاياه أكثر بكثير من كل جائحة أو كارثة؛ وأن أمراض سلطة الاستبداد تفتك بالمواطنين وبالمواطنة بأشكل شتى ومتعددة.
فالسلطة المريضة التي تجعل من بطشها غاية، ومن سلوكها قيمة، هي تلوح دائما بالبطش فتنتج "عبيدا.. خائفين مذعورين مذعنين خاضعين"، وتتحول
السلطة من وظيفة عليها أن تضطلع بها لتحقيق مقصود العمران البشرى وعلاقاته؛ مستلزماته وموجباته، إلى جهاز لا يرى إلا استقراره وقراره، وأمنه وأمانه، وحصوله على مزيد من السلطة والسلطان له ولأعوانه.
هذه السلطة في تصوراتها الإدراكية للعلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم تحكمها قاعدة كلية "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، حتى لو كانت رؤاها عشوائية؛ وتصير عشوائية السلطة "تفكيرا أو تدبيرا وتسييرا" من أهم منتجات المجتمعات العشوائية. كما أن هذه النوعية من السلطة العشوائية تجد من أهم مصالحها تحقيق حالة من استقرار "الأمر الواقع"، طالما كان في مصلحتها، وتحقيق مصلحتها وتحقيق مقصودها في بقاء السلطة استقرارا واستمرارا.
وتمارس هذه السلطة منظومة أمراضها المكرسة لحال الظاهرة العشوائية، بما يضمن لها إقرار تسلط السلطة، وسلطة التسلط. وبدلا من أن تمثل السلطة خريطة القوى الاجتماعية والسياسية على أرض الحقيقة والواقع، فإنها في ذاتها تمثل "القوة" احتكارا أو تسلطا، استبدادا وطغيانا؛ تنظم فيما بينها مصالح ووجهات شتى، يتفق هؤلاء بإعمال استبدادهم لحماية مصالحهم وفسادهم.
وتتلاعب السلطة في كل ذلك لتتهم كل من يعارضها بأوصاف ذميمة، وكل من يقاومها هو طالب للسلطة يريد أن يختطفها أو يركبها وهو يحتال للوصول إليها. "السلطة ذات مصونة لا تمس" إلا من أهلها، وهم أهلها ولا يسمحون لغيرهم بالاقتراب من حياضها.
تتلاعب السلطة بكل أنساق الادراك والتفكير والتعليم والتربية والتثقيف والإعلام، وبكل أنساق القيم فترفعها كشعارات وتنتهكها على أرض الواقع، وتنتج مواطنا أو بالأحرى "عبدا" يرى ما يرى وهو صامت يؤدي ما يُطلب منه من غير" تعقيب" أو "وجع دماغ"، فتمرر قيما سلطوية مواتية لحركتها وتحقيق مصالحها.
وهي كذلك تتلاعب بأنساق السلوك، وتقيم كل عناصر سلوكها على قاعدة من التمثيل، كما سبقت الإشارة إلى "حق الاداء العلني" للجماهير في إطار من التعبئة العامة، لتساند الحكم والحاكم، ومن لم يقل خيرا في السلطة فعليه أن يصمت.
وهي تمارس كل ذلك في إطار إصلاح ضال "تقوم به ليل نهار".. "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون.. ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".
هكذا تستبدل عناصر السلطة أمن الناس بأمنها، فتجعله من قلب وظيفتها الأمنية. وإذا كانت أي سلطة يشغلها الجانب الأمني، لكن يزداد هذا الانشغال حتى يصل لأقصى درجاته لدى السلطة غير المنطقية ولدى السلطة الفرعونية ولدى سلطة السلطة، إنها السلطات المستبدة التي تجعل من هواها سلطة ومن أفكارها رشدا ومن أساليبها طريقة مثلى.
هي لا تقبل المراجعة أو المحاسبة او المساءلة، هي سلطة حسبما اتفق، تمارس كل عناصر عشوائيتها وتسميها سياسة واستراتيجية وخطة، تتحرك في جوفها فتزيد الأزمات وتتراكم، فلا ترده مرة واحدة إلى سوء عملها أو حال تقصيرها أو حال قعودها عن الإنجاز.. هي المنجزة أبدا، هي الفاعلة دائما، هي التي تسهر على راحة الناس، ألا تستحق سلطة مثل هذه الأمن والأمان؟! لأن الأمر لا يخلو من متربص يتربص بها، ومن خصم يحاول القفز على السلطة وكراسيها. ولا ضير أن نضيف إلى أعداء الداخل أعداء الخارج، فالسلطة مستهدفة، وهناك من يحاول تعطيل مسيرتها في إشاعة الأمن والنظام والاستقرار، ليكون المجتمع مؤهلا للعمل والنماء والارتقاء. فإذا لم يحدث أي شيء من هذا، فإن الأمر قد يعود إلى زيادة سكانية تأكل النمو، ولا تتحدث عن فسادها الحقيقي أو فساد أعوانها.
في هذا السياق تشكل أجهزة الدعاية والإعلام والإعلان لدى السلطة، فيكون هذا مع الأمن قدمين للنظام، فتقوم هذه الأجهزة بالمبالغة في إظهار إنجازات السلطة وتبرير أفعالها، وتحويل هزائمها إلى انتصارات تاريخية، كما تقوم بإضفاء صفات البطولة والحكمة والتضحية على رمز السلطة المستبدة. فهو ملهم وهو الزعيم الأوحد، وهو الذي يصدر التوجهات، وتضع صوره وتماثيله في كل مكان..
وهي حالة إعلانية بالغمر والتعبئة والتكرار والإلحاح، فحيثما ذهبتَ يطالعك وجه القائد أو صوره أو أقواله أو إنجازاته. ويتحرك صاحب السلطة شيئا فشيئا إلى سلوك ادعائي ودعائي، فيلبس قناعا يراه مناسبا لتحقيق هذا الهدف في استمرار السلطة أو توريثها، بما يشكل وعي وتفكير الجموع في اتجاه مصالحه الخاصة.. إنه نوع من الدائرة التمثيلية، الذي يقدم فيها صاحب السلطة دورا تمثيليا لتكتمل دائرة تزييف الوعي. ومع هذا الوضع تبقى الصور المزيفة سيدة الموقف في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في إطار من عبارة تجعل الأمر برمته "كله تمام"، في مناخ من تشكيل الرضا الكاذب أو الزائف؛ ومن ثم فإن أصحاب السلطة والسلطان يحاولون إعدام كل بارقة وعي لدى الجماهير، حتى يحافظوا على عملية تكريس وعيها الزائف وتنويم قواها وفاعليتها.
وفي إطار الصور المزيفة تواصل السلطة حركة زيفها في إطار ما تراه أنه إصلاحات زائفة أو تغييرات "ديكورية"، في محاولة التفافية على حقيقة الإصلاح، وذلك أن حالة الزيف تلك تمثل بيئة خصبة ليس فقط لتسويغ الكذب الإنجازي "الفنكوش".
تضخم السلطة وتغولها يعني وبدون أي جهد أو اجتهاد تأميم
المواطنة والاستبداد بها. ومن عناصر تضخم السلطة الإحساس المتضخم بخلودها، و"الزعيم الخالد" واحد من الشعارات التي تقع في نفس الشخص الساعي للسلطة المتشبث بها.. إنه لا يشبع من التملك، يسعى إلى الخلود في الدنيا.. وكلما اتسعت دائرة نفوذه وانتشرت صوره وتماثيله في كل مكان كلما انزلق إلى الاعتقاد بفكرة خلوده. ولو أصابه المرض أو أدركته الشيخوخة وأيقن بفكرة موته فإنه يعمل بسلطانه من خلال أبنائه وتوريثهم، أو توريث بطانته.
إن ما يسيطر عليه "ملك لا يبلى"، ومن هذه الفكرة يتولد ذلك الرعب الدفين مما بعد السلطة ومحاولة استبعاد ذلك الاحتمال. المستبد يرى نفسه دائما في السلطة، ويعرف أن النفاق والخوف والتزلف والمزايا التي يجتنيها لا يمكن أن يصل إليها إلا من خلال السلطة واستغلال وجوده فيه، ومن ثم يسعى مع تضخم الذات إلى امتلاك السلطة والتشبث بها. ويرى في كل نصيحة مؤامرة، ولا يثق بأحد ممن حوله، ويسيء الظن بالكثيرين ويتوقع منهم الإيذاء والتآمر..
إنه لا يعرف إلا قانون التسلط والسيطرة للحفاظ على ذاته.. هذه الذات المستبدة المتضخمة تحاول أن تضع نفسها حيث تراها، فيهتم الزعيم المستبد الخالد بصحته ومظهره وشياكته بشكل واضح؛ ولديه ذات متضخمة فيشعر أن الجماهير التي يحكمها محظوظة بحكمه إياها.. "إن عليها ان تحمد ربها أن وضعه القدر في هذا المقام ".
ومع هذا التوحد والتضخم السلطوي تتضخم الأجهزة الحامية له والقابضة على جماهيره "التي ربما لا تستحقه". ومن وجود في السلطة إلى طلب المزيد منها والتشبث بها، وهذا يستدعى ممارسات تحايلية والتفافية وتلفيقية، وخداعا وكذبا، وتصبح هذه الأشياء من ضرورات اغتصاب السلطة وتغولها، وفي المقابل تتآكل المواطنة في جوهرها وحقائقها وحقوقها.
twitter.com/Saif_abdelfatah