لم تكن مرة واحدة، بل أكثر من مرة، التي كتبت فيها أن الخطر الحقيقي على عبد الفتاح
السيسي يمثله الفريق
أحمد شفيق،. ولم أكن بهذا أضرب الودع، أو أقرأ الفنجان، بل كانت قراءة دقيقة للواقع.. وها هو رد فعل الأذرع الإعلامية للمذكور بعد الإعلان عن عزم المرشح الرئاسي السابق؛ خوض
الانتخابات التي ستبدأ إجراءاتها بعد ثلاثة شهور!
لقد أصاب الإعلام السيساوي "الخوف"، بمجرد هذا الإعلان، وبدا واضحاً أن التوجيه يتم من مكتب عبد الفتاح السيسي؛ بهدف اغتيال الرجل سياسياً. وكان واضحاً أن العقل توقف تماماً من هول القنبلة التي أطلقها "شفيق" في وجوههم، فاستمعنا إلى تشهير به، وصل إلى حد إعلان "لميس الحديدي" أن حذاء المرشح الرئاسي اليساري خالد علي "برقبته"، ونسيت أنها تقوم بإهانة أحد قيادات الجيش المصري السابقين، وكان ينتمي إلى خير أجناد الأرض، وهو الامتياز الذي نفخوا فيه من قبل، باعتباره لصيقاً بالسيسي!
وإذا كان المتواتر بأن عبد الفتاح السيسي لا ينام سوى ساعتين في كل ليلة، فظني أن النوم طار من عينيه في الليلة التي أطلق فيها أحمد شفيق قنبلته، فإذا بكل حصون السيسي كأنها عهن منفوش، وهو ما يبرر استباحة الرجل، واستدعاء خطاب الإخوان في مواجهته، ووصفه بالهارب. فلم تكد تمر سوى شهور قليلة على ذلك، حتى صار الهروب تهمة توجه إليهم، وكأنه الاتهام اللعنة الذي لا نعرف بمن سيحل في المستقبل المنظور؟!
لقد هرب الفريق "أحمد شفيق" إلى الإمارات، بعد أن تم تقديم العديد من البلاغات ضده للنائب العام؛ تتهمه بالفساد، ومن ثم وضع اسمه في قوائم ترقب الوصول. وقد أحيلت البلاغات إلى المحاكم، ليحصل على أحكام بالبراءة فيها جميعها، ومع ذلك استمر هارباً، وبقي اسمه على قوائم ترقب الوصول بالمخالفة للقانون، وهذا هو بيت القصيد!
فالسيسي يدرك تماماً مدى خطورة "شفيق" عليه، وهو خطر لم يبدأ من اليوم، ولكنه بدأ مبكراً، وقبل أن تختبر الدولة العميقة السيسي، وتنتهي إلى أنه لا يعبر عنها ولا يمثلها، وهو ما شعر به قادة الحزب الوطني المنحل، بعد العزوف الجماهيري عن الانتخابات الرئاسية التي خاضها السيسي. فقد أبدى أحدهم ندمه؛ لأنهم لم يدفعوا بالدكتور حسام بدراوي، القيادي بالحزب، لخوض هذه الانتخابات ضده!
وأحسب أنني أدركت هذا مبكراً، ربما لأنني مهتم بدراسة الناس والمجتمعات، وباعتبار أن فهم طبيعة البشر مقدم عندي على دراسة العلوم السياسية، وهو ما يغفله كثير من المحلليين الذين ينظرون لمجتمعاتنا من باب الاستشراق!
كان البعض يشاهد، وصلات هز البطون في الشوارع، فيرى أنها كاشفة عن احتشاد جماهيري كبير، وكنت أرى أنها دعاية سلبية. فحتى الذين يتمنون للدولة القديمة، من كبار العائلات، ووجهاء القبائل، يمثل هذا الابتذال بالنسبة لهم أمراً يقلل من القدر، ولا يمكن أن يحتفي به إلا من يفتقدون للثقة والاعتبار في المجتمع المصري، أضف إلى هذا عملية كسب الود، "بتسبيل العيون"، والحديث من بين الضلوع!
وقد كانت الأنظمة السابقة تفهم كيف يفكر الناس في مصر، وهؤلاء هم الذين كانوا ينتمون لدولة ما قبل الثورة، فلما جاء العسكر في سنة 1952، لم يحاربوا سوى الإقطاعيين، لكن لم يقاطعوا هؤلاء باعتبارهم كانوا ينتمون إلى أحزاب العهد البائد، وإنما احتوتهم التنظيمات السياسية التي قامت بعد الثورة، ولم يكونوا جزءا من فساد هذه التنظيمات، غاية ما في الأمر أنه أبو سفيان الذي يحب الفخر!
وإذا كان حسني مبارك لا يجيد بطبيعته التواصل مع الناس، فقد كان في دولته من ينوبون عنه في ذلك، إلى أن جاء جمال مبارك، وكان متعالياً، والتف حوله "صبيان الموالد"، فهدموا الحزب الوطني، وأتوا بخلق جديد، وبصناعة طبقة بديلة؛ ينحني أحد ممثليها ليضع حذاء أحمد عز في قدمه، وهو خارج من المسجد. ولهذا، فعندما قامت الثورة لم تتحرك الدولة القديمة لنجدة أهل الحكم، ولم تكترث بسقوطهم لأن هؤلاء لم يكونوا طرفاً في الأمر، فكان البديل هو الاستعانة بالشبيحة، سواء للتظاهر تأييداً لمبارك، أو بمحاولة اقتحام ميدان التحرير في موقعة الجمل!
لكن بنجاح الثورة، فقد ذهبت السكرة وحلت الفكرة، ورأت الدولة العميقة، في سياقها القبلي، أن مكانتها الاجتماعية تراجعت، فاحتشدت، وانحازت للمرشح الرئاسي الفريق أحمد شفيق، ليس فقط لأنه ينتمي لهذه الدولة، وإنما لأنه استطاع أن يتعامل من فوق منصة القائد العسكري، الممتلئ بالشموخ، وكأنه انتصر توا في معركة حربية. والذين تعاملوا مع الشعب المصري من باب الاستشراق لم يدركوا أن هذا الشعب يغرم بالحاكم القوي، وباعتبار أن الحاكم الضعيف فتنة، ومن هذا الباب قدموا عبد الفتاح السيسي، لكن لأنه كان "الدكر" المصطنع فقد انتهى سريعاً!
لقد كانت الأصوات التي حصلها عليها "أحمد شفيق" مفاجأة، لا سيما وأنها كانت بعد ثورة، وكان هو آخر رئيس حكومة في عهد مبارك، وقد شارك المجلس العسكري الحاكم. في عملية تشويهه، ومن خلال التلفزيون الرسمي والقنوات الخاصة، وجرى استغلال الثوار في المهمة، وبعضهم شارك بحسن نية، ولم يكونوا يعلمون أنهم هنا يفسحون المجال للمشير محمد حسين طنطاوي للحكم منفرداً، وهو أمر لم يكن ليحدث في ظل وجود "أحمد شفيق". وكان المشير قد تخلص، في اليوم التالي لتنحي مبارك من اللواء عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية، وقد جاء بطرطور، كل قيمته أنه شخص ضعيف، هو عصام شرف وزير النقل الأسبق، وعضو لجنة السياسات بالحزب الوطني، لكن من مثلوا الثوار أجمعوا على أنه رئيس الحكومة القادم من ميدان التحرير، ووقف بجانبه في التحرير وهو يتلو بيانه: الإخواني، "محمد البلتاجي"، والناصري "حسين عبد الغني"، وذهبت كتاباتي أدراج الرياح؛ وأنا أقول: بل رئيس الحكومة القادم من لجنة السياسات!
"شفيق" صاحب تجربة، وهو ما جعل عبد الفتاح السيسي يشعر بالخوف منه، ولا يسمح له بالعودة إلى مصر، وهو فضلاً عن التجربة، فإنه يملك رصيداً إضافياً، يمكنه به أن يجرد السيسي من أي غطاء أو ميزة يمكن أن تمثل دعاية له.
فإذا كانت دعاية السيسي تقوم على أنه ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، فقد كان "أحمد شفيق" "فريق أول" في وقت كان فيه عبد الفتاح السيسي مجرد "عميد".. وهو من الذين شاركوا في حرب أكتوبر، في حين أن السيسي رأى الحروب "فيديو".. وقد كان ضابط طيار، في وقت التحق به السيسي بالمدرسة الثانوية الجوية. ثم إنه كان أحد قادة القوات الجوية المصرية، والسيسي ينتهي من دراسته الثانوية ويريد الالتحاق بكلية الطيران، لكن قائدها مبارك يرى أنه يفتقد للشروط المطلوبة في طول القامة، فيتم الدفع به إلى الكلية الحربية، مع عدم النظر إلى مواصفات الطول، وغير ذلك، وهو بقصر قامته لم يكن ليُقبل في الجيش كجندي مجند، ولولا دفاع صاحب مشروع الثانوية الجوية عن فكرته، لما تم قبوله في أي كلية حربية!
وانتماء الفريق شفيق للمؤسسة العسكرية، وهو انتماء حقيقي؛ فليس منتحل صفة، سيبدد امتياز السيسي في هذا الصدد، فدعايته قامت على أنه قادم من بيت الوطنية المصرية، ممثلاً في الجيش المصري، هذا فضلاً عن أنه إن كان ثمة اعتبار لفكرة العداء مع الإخوان لدى البعض، فقد كان "شفيق" منافساً لمرشحهم الدكتور محمد مرسي، وكان على قائمة الأعداء، وهو ما أنتج البلاغات التي قدمت ضده للنائب العام، وما كانت سبباً في تركه لمصر، وفي وقت كان فيه السيسي ينافقهم، ويتقرب إليهم بالنوافل، ويحرص على أن يظهر الود للرئيس محمد مرسي كما لو كان ابنه "البكري"، فكان خاضعاً أكثر مما ينبغي، وأكثر مما يستلزمه خضوع وزير الدفاع للقائد الأعلى للقوات المسلحة.
وإذا كانت الدولة العميقة، بتمثيلها الرسمي؛ تنحاز للسيسي بحكم أنه ينتحل صفة تمثيلها، فإنها عند حضور الأصيل، لا تجد نفسها ملزمة بالتمسك "بالوكيل"، لا سيما إذا كانت الوكالة بالتزوير في أوراق رسمية، بهدف الادعاء.
وإذا كان الإشراف على الانتخابات الرئاسية، مهمة موظفي الدولة، والجيش، والشرطة، والقضاء، كل بحسب موضعه من القرب والبعد من عملية الإشراف، فإن هذه الدولة لن تجد نفسها مضطرة لتزوير الانتخابات لصالح السيسي، لا سيما وأنها تشعر أن حكمه لا يحمل جينات الاستمرار. فالناس تئن من ارتفاع الأسعار، والمصانع أغلقت، ولم تعد هناك جهة تعمل في مصر سوى الجيش؛ الذي أسندت إليه مؤخراً تربية الأسماك وإنتاجها والاهتمام بها إلى مرحلة ما قبل الشوي أو القلي، كمرحلة أولى!
وما استفاده مثلث الحكم، ممثلاً في القضاء والجيش والشرطة من امتيازات، وإن كان لم تتحصل عليه أي فئة أخرى، فإن هذا كله معرضاً للضياع، إذا قامت الثورة، والتي لن تكن مهذبة وحانية، كما كانت ثورة يناير، بل ستكون فرصة للانتقام، لن يحد منها أن تخرج قيادات العمل السياسي تطالب بالهدوء؛ لأنها ستكون هدفاً لسهام الثوار هذه المرة، بما في ذلك قيادة جماعة الإخوان المسلمين ذاتها؛ لأن حجم المظالم يفوق في السنوات الأربع الأخيرة ما جرى طوال الثلاثين سنة من حكم مبارك!
والحال كذلك، فإن السيسي يستشعر خطراً حقيقيا من وجود شفيق، وهذا ما يفسر حملة الإبادة الإعلامية ضد المرشح الرئاسي السابق. والمسألة ليست سهلة، فالسيسي يخوض حرب حياة أو موت، فمبارك في النهاية كانت جرائمه متواضعة بجانب ما فعله السيسي، الذي أوغل في دماء المصريين، وفرط في الأرض والمياه!
والقصة من وجهة نظري لم تتم فصولاً بهذا الإعلان، ففي اللحظة التي تقبل فيها لجنة الانتخابات الرئاسية أوراق الفريق شفيق، فإن صفحة عبد الفتاح السيسي تكون قد طويت!